رسالة
عَيْنُ جالوتْ... وانتصارُ الحقِّ على الطاغوتْ
- التفاصيل
- المجموعة الأم: المحتوي
- نشر بتاريخ السبت, 20 شباط/فبراير 2016 07:47
- الزيارات: 2140
بقلم/ د.خالد يونس الخالدي
رئيس مركز التأريخ والتوثيق الفلسطيني بغزة
في مثل هذا اليوم، الخامس والعشرين من رمضان، لعام 658هـ، الثالث من سبتمبر، لعام 1260م، وقعت معركة عين جالوت الفاصلة، بين المسلمين بقيادة حاكم مصر سيف الدين قطز، والمغول بقيادة كتبغا نوين، ونصر الله المسلمين وهزم المغول هزيمة ساحقة، وحرر الشام وفلسطين نصراً مؤزراً، من رجسهم، وأنقذ الأمة المسلمة وحضارتها من الدمار.
ومن المفيد للمسلمين اليوم قادة وشعوباً أن يعوا الأسباب التي أدت إلى انتصار أجدادهم الأوائل، على جيش المغول الذي لم يهزم قط، ويستخلصوا منها الدروس والعبر، لأنها تفيد جداً في صراعنا الحاضر مع أعداء الأمة، وعلى رأسهم اليهود. وتلكم أهم أسباب النصر على المغول في عين جالوت:
· انتصر المسلمون لأنهم وجدوا قائداً مؤمناً شجاعاً، قرر بلا أي تردد مواجهة المغول، ولم ترهبه سمعة جيشهم الذي لا يُهزم، وجرائمهم غير المسبوقة، في قتل الأطفال والنساء والشيوخ بلا رحمة، وقتلهم لأكثر من مليون مسلم في بغداد، وتدميرهم لكل معالم الحضارة فيها، ولم تهزه رسالة هولاكو إليه التي جاء فيها: "اتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم، فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكا، أيُّ أرض تؤويكم؟ وأيُّ طريقٍ ٍ تنجيكم؟ وأيُّ بلادٍ تحميكم، فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، الحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسَمْع" بل لقد أمر بقتل رسل المغول، بشقهم نصفين، وتعليقهم على أبواب القاهرة، وسمح لفتى صغير معهم بالعودة، ليحدث المغول بما رأى، فتهتز معنوياتهم، وتعلو معنويات المسلمين. وهذا القرار لا يقدر عليه إلا القادة المؤمنون الذين يعدون الموت -الذي يهدد به الأعداء-، أسمى أمانيهم.
· لأن قطز، جعل مستشاره عالماً مجاهداً جريئاً، حتى في نصحه له، هو العز بن عبد السلام، فقد شجعه على الجهاد، ونصحه بعدم فرض الضرائب على الناس من أجل الحرب، إلا بعد أن يُسلِّم هو وغيره من المماليك في مصر، إلى بيت المال، كل ما لديهم من أموال، حتى مجوهرات وحلي نسائهم، فإذا لم تكف أخذ الضرائب من الناس، واستجاب المماليك لذلك، وجاءوا بكل أموالهم، فارتفعت معنويات الناس، والتفوا حول قيادتهم.
· لأن قطز لم يتأثر بالقادة والأمراء المثبطين المعوقين الذين يظهرون في وقت الخطر، ويقدمون آراء انهزامية، بل أصر على موقفه، وأعلنه صريحاً قوياً واضحاً، إذ جمع الأمراء والوجهاء، وقرأ عليهم رسالة هولاكو، وطلب رأيهم، فأشاروا بالهروب من مصر، أو التفاوض مع المغول من أجل الاستسلام والخضوع، بحجة التفوق العسكري للعدو، وضعف إمكانات البلاد الاقتصادية، وواقع الأمة الضعيفة، التي أصبحت بلا خليفة. فحرضهم، وذكرهم بأعراضهم، ومبادئ دينهم، وقال لهم بكل ثقة: "والله، لو لم أجد من ألقاهم به إلا نفسي، لخرجت إليهم وقاتلتهم"، فحميت نفوسهم، وتشجعوا، وقرروا القتال معه، وكان القرار الذي أجمع عليه الناس، الخروج لمواجهة المغول في فلسطين، وليس انتظارهم في مصر.
· لأن الأمة بكل عناصرها توحدت على الجهاد، فالقادة والأمراء والعلماء مع الجنود في الميدان، ومن المحال أن تتوحد الأمة بكل عناصرها، على هدف وتفشل في تحقيقه.
· لأن الراية التي رفعت في المعركة هي راية الإسلام، ولأن قلوب الجنود والقادة وألسنتهم، كانت تلهج بالصلاة والذكر والدعاء، وعندما التقى الجيشان، ولاحظ قطز كثرة جموع المغول، أمر جنوده بألا يبدءوا القتال إلا عندما يكون الخطباء على المنابر، يدعون لهم في صلاة الجمعة.
· لأن قطز نزل عن حصانه الذي أصيب بسهم، وأخذ يسجد لله تعالى، ويغبر جبينه بالتراب، ويصيح بأعلى صوته:"واإسلاماه"، "يا الله انصر عبدك قطز"، فتحركت المشاعر الإيمانية للجنود والأمراء، وزاد الخشوع، وسالت الدموع، وارتفعت الهمم، وحسن البلاء، فانهزم المغول، وهربوا، ولاحقهم المسلمون حتى أبادوا معظم جيشهم، وقتلوا قائدهم، وأسروا ولده، وحرروا الشام كلها.
إن الدروس التي يمكن استخلاصها من معركة عين جالوت كثيرة، لكنني أكتفي باثنين منها:
أولاً: إن بقاء المحتلين الغزاة يطول في أرض المسلمين، إذا أبعدت الأمة الإسلام عن ميدان المعركة مع العدو، وهذا ما أخر تحرير فلسطين من اليهود في زماننا، أما إذا أدخلت الأمة الإسلام إلى ميدان الصراع مع أعدائها مباشرة فإن عمر الاحتلال سيكون قصيراً، ففلسطين التي جاءها قطز بجيش مؤمن يرفع شعار "واإسلاماه" لم تمكث في أيدي المغول إلا خمسة أشهر، ودمشق لم تمكث تحت الاحتلال المغولي إلا سبعة أشهر وعشرة أيام.
ثانياً: إن النصر الكبير للمسلمين في عين جالوت، على أقوى جيوش العالم في ذلك الوقت، بعد نحو سنتين فقط من الهزيمة العسكرية والمعنوية الساحقة للمسلمين في بغداد_ وهي مدة قليلة غير كافية لإعادة بناء أمة مهزومة وتأهيلها، ورفع معنوياتها_ ليدل على أن الأمة دائماً بخير، لكنها بحاجة إلى قيادة جادة مجاهدة صادقة، تعرف كيف تحرك هذا الخير، فلقد هزمت الأمة في بغداد، عندما كان الخليفة المستعصم لاهياً عابثاً ضعيفاً، وها هي الأمة نفسها تنتصر بعد سنتين فقط عندما رزقت بحاكم مؤمن صادق مجاهد. وهذا درس ينبغي أن يعيه جيداً الإسلاميون في زماننا، فلا يزهدوا في الوصول إلى الحكم بحجة أن الأمة بحاجة إلى مزيد من الدعوة والتربية، لأن الأمة بخير، ووصول القيادة القوية إلى حكم الأمة، هو الذي يحرك الخير الكامن فيها، ويمكِّنها من استعادة أمجادها، والانتصار على أعدائها، وتحرير أرضها.