رسالة
زيت يوقد في سراجه
- التفاصيل
- المجموعة الأم: المحتوي
- نشر بتاريخ الجمعة, 10 نيسان/أبريل 2015 21:16
- الزيارات: 4543
زيت يوقد في سراجه
أناملها الصغيرة تمسك الغصن بقوة لتتقن رسم تفاصيل البيت على صفحة الرمال، كما نقشت على صفحة الوجدان تماما.. حرصت أن يكون الغصن غصن زيتون هذه المرة، ألحت كثيرا في طلبه فلم تملك الجدة الحنون إلا أن تلبي رغبة حفيدتها. رسمت الصًّور أولا، وكأنها تريد أن تحمي بيتها ممن يتربصون به ليل نهار. توقفت قليلا لتتأكد من عدد الأبواب وتفاصيل القبة والحائط.. حطة ، فيصل، الغوانمة، المغاربة، الأسباط، الناظر، الحديد، القطانين، السلسلة..يا الله أعني على تذكر ملامحه جيدا، مثلما أعنت نبيك الكريم صلوات الله عليه حين خشي تكذيب الكفار.. فأنا أخشى النسيان الذي يغشى أمتي، النسيان جفاء.. فكيف لي أن أجافي بيتك؟ هذا ما لا أطيق..
عادت إلى غصنها الصغير متوكلة على العلي القدير، فهو وحده يعلم حبها للبيت.. لان الغصن الآن وطاوع صغيرتنا، إنه ينقش بقوة.. لا يخطئ الهدف وكأنه يعرف البيت هو أيضا. لا يخشى الأمواج أبدا " فأما الزبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".. نار الشوق الجميل الذي يتقد في قلبها تشد الغصن وتصقل تفاصيل الأشكال التي يرسمها..
سقط الغصن من يدها فجأة، إنها تسمع صوتهم.. قد عادوا من جديد فهل سيبدؤون الرحلة اليوم؟ يا إلهي، أرجو أن يكونوا مستعدين، لم أعد أطيق الانتظار.. الناس تقتل، الأطفال يبكون، ممرات المدن ملطخة بالدماء، الصوامع تشكو للخالق ما يقع على الأرض.. الأنجاس يقفون على جثث الأطهار، فكيف لي أن أنتظر.. البيت يناديني، فكيف لا ألبي النداء؟ كيف؟ قد لا أعيش حتى يتخلص من الدنس، لكن على الأقل سأراه وسأدفن في جواره، سأموت وسأرتاح من رؤية كل هذا الألم.
ـ تركت الهواجس خلفها وتقدمت بثقة نحو السيد الطيب، كبير الصيادين. وسألته كما تفعل كل يوم، عمي هل ستذهبون اليوم؟
ـ اضطرب قليلا، لكن توكل على الله وقرر أن يخبرها بالحقيقة. إصرارها وصدقها يصدمه.. لم يتوقع أن تحتفظ بشوقها كل هذه المدة، وأن توفي بالعهد الذي نسيناه.. لم يشأ أن يزعج عالمها الصغير بآلام الكبار، فأخفى عنها الحقيقة المرة.. إنهم لا يرحلون إلى بيت المقدس، لم يروا قط يافا ولا حيفا ولاغزة..
ـ رحلات الشرف والوصل انقطعت بنيتي، هكذا أجاب الصياد باستحياء. لكن الصغيرة لم تستوعب الأمر جيدا.. فكررت السؤال، هل ستذهبون اليوم؟ لا تشغل بالك كثيرا يا عمي فأنا صبورة، أتقن أشغال البيت جيدا، لن أشكو، ولن أبكي، سأساعدكم في كل شيء، وإن كنتم تخشون التيه فلن تتيهوا.. بوصلة روحي ستَهدينا الطريق، وعندما سنصل سأريكم الأبواب والأزقة فأنا أعرفها جيدا ..إنها محفورة في كياني.. لا تهتموا للسكن ولا لدراستي، سنسكن في حارة المغاربة، وسأدرس بالمدرسة الأفضلية، لقد أعد لنا الشيخ الصالح عمر بن عبد النبي رحمه الله كل ما نحتاجه. فلم التردد؟ لم الخوف؟ أجدادنا رحلوا من هنا إلى هناك، فلم لا نرحل؟ الناس يذهبون الآن، ألم تشاهد سفينة الحرية؟.. صحيح أنهم قتلوا، لكنهم وصلوا.. الكل يتحرك، فما بالنا نقبع هنا، ينهشنا الألم والحسرة.
خنقت الدموع صوت الصياد الطيب وهو يعزف على وتر الحزن حسرته ولوعته..أقبلت إسراء وبدأت تمسح دموعه، لكن الدموع أبت أن تتوقف.. فالحزن دفين، والجرح عميق..
ـ ساعة الانطلاق أتت، لا بد للصياد أن يلتحق بموقعه. ودع الصغيرة وولى..
ـ إسراء، إسراء.. أين أنت بنيتي، إنها الجدة. لقد أتت لتتفقد حفيدتها الغالية.. يؤلمها حال الصغيرة، فتندم لأنها حكت لها عن بيت المقدس الكثير، يبدو أن قلبها الصغير لم يحتمل كل تلك التفاصيل الموجعة.. ليتها لم تخبرها بقصة الشيخ الصالح عمر بن عبد النبي المصمودي..
ـ جدتي، ها أنا ذي أتيت. يبدو أنك لم تنتبهي لقدومي.. هل تأخرت اليوم كثيرا؟ لا تقلقي جدتي، لم يصبني مكروه.
الحمد لله بنيتي، هيا إلى البيت.
ـ أخذت غصن الزيتون، وعادت مع جدتها.
ـ الجدة تقرأ في ملامح بنيتها حزنا لا يناسب الصغار، اختفت ابتسامة إسراء، لا يسمع صوت ثرثرتها المعهودة، ولا صوت ضحكاتها.. توقفت عن الأسئلة وتوقفت عن الرسم وعن تصميم زوارقها الورقية أيضا.. جلست الجدة إلى جانب حفيدتها ، أمسكت بيدها لعل شيئا من اليقين يتسلل منها ليربط على القلب ويطرد منه الأحزان.
انطلق صوت الأذان عاليا، الله أكبر.. الله أكبر.. الجدة تردد ألفاظ النور، وهي تبكي.. فلا أحد ينسى أولى القبلتين.. صوت الأذان علا ليخفي كل الأصوات، اختفى صوت البكاء، وصوت الحزن، حتى صوت الصياد الذي يتردد صدى كلامه في أذني إسراء اختفى تماما.. لا شيئ يعلو على نداء الحق، والطمأنينة حطت بأجنحتها تواسي كل حزين.. انتهى الأذان، لكن أثره بقي..بعده جاء الدعاء ليذكر بالحبيب عليه الصلاة والسلام، اللهم ارزقه الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته.. إسراء تردد الدعاء، مع جدتها، دعاء ترجو به رفقة الأحبة محمد وصحبه.. ذكر الحبيب أحيى شيئا ما بداخلها، فأشرقت ابتسامة رضا على صفحة وجهها، هنا ذهبت الجدة لغرفتها، وبعد دقائق عادت وفي يدها جرة، وأعطتها إسراء. تعجبت صغيرتنا من صنيع جدتها، وقبل أن تسأل قالت الجدة: كلنا نشتاق للبيت الذي تحبين، نبينا علم هذا جيدا، وأدرك أننا قد نعجز كل العجز عن الوصول إليه، كما عجزت تماما.. علم أنه سيدنس وسيعذب أهله ويقتلون وأن منا من لن يقوى على فعل أي شيئ فأهدانا ما نخمد به نار الشوق التي تضرم بدواخلنا وتزيدها الآلام اشتعالا..
أوصانا أن نهدي الأقصى هدية، وهذه الهدية وضعتها بالجرة، اعطها للصيد غدا، سيودعها عند من يوصلونها. لن نخذل الأقصى الحبيب بل سنهديه زيتا يوقد في سراجه.
كوثر النويني
حرر برباط الفتح،
المغرب الأقصى