رسالة
المرحلة السابعة: الفتح الإسلامي الثاني
- التفاصيل
- المجموعة الأم: المحتوي
- نشر بتاريخ الأربعاء, 13 تموز/يوليو 2016 06:40
- الزيارات: 3951
المرحلة السابعة: الفتح الإسلامي الثاني
من 583هـ/1187م – 1336هـ /1917م
أسهم سقوط بيت المقدس بيد الصليبيين وتهديدهم للبيتين الآخرين بمكة والمدينة في إيقاظ الأمة المسلمة، لترد الطهر إلى القدس في عهد صلاح الدين الأيوبي، وليكمل المسلمون، عربا، وأكرادا، وأتراكا، من بعده تطهير الأرض المباركة، وإعمار المسجد الأقصى، مع استئناف مسيرة الحضارة الإسلامية الزاهرة خلال العهدين المملوكي والعثماني.
خلال الـ 30 عاما الأولى من احتلال الفرنج أو الفرنجة (الصليبيين crusaders) لبيت المقدس، لم تنقطع حملات المسلمين على ممالك الفرنجة في الشام، ولكنها كانت محدودة، ولم تكتسب بعدا شموليا إلا بعد اتخاذ استراتيجية للتحرير تعتمد على توحيد جهود الأمة وإنهاء التشرذم الذي كان عليه المسلمون وراء هدف الجهاد في سبيل الله.
هذه الاستراتيجية حمل لواءها، خلال الثلثين الأخيرين من عمر الاحتلال الصليبي للقدس، علماء عاملون، وحكام عادلون، برز منهم ثلاثة حكام، لم يكونوا عربا، وإنما كانوا أتراكا وأكرادا اتخذوا الإسلام منهجا والجهاد سبيلا. وهؤلاء القادة هم: الشهيد عماد الدين زنكي بن آق سنقر Zengi صاحب الموصل، ثم ابنه العادل نور الدين محمود Nur ad-Din، سلطان الشام ومصر، وأخيرا الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب Saladin، والذي أتم الله على يديه تحرير البيت المقدس.
اعتمدت استراتيجية التحرير على تحقيق ثلاث مراحل متتابعة: توحيد الشام، ثم توحيد الشام مع مصر، ومن ثم الإطباق على الصليبيين في بيت المقدس وتحريره من قبضتهم. وكان أهم ما ميز الحكام الثلاثة وأتاح لاستراتيجيتهم النجاح إيمانهم القوي بالله تعالى واعتمادهم الحل الإسلامي. فلم يغفلوا في سعيهم لإنجاح استراتيجيتهم عن ضرورة النهوض الشامل بالمسلمين اجتماعيا، واقتصاديا، وثقافيا، وليس سياسيا، وعسكريا فقط. وبرزت جهودهم، خاصة في عهد نور الدين وصلاح الدين، واللذين تميزت شخصيتهما أيضا ببعدها الإيماني والعلمي القوي، في نشر العلم ومحاربة البدع، خاصة بعدما أحدثه الفاطميون العلويون في مصر وبيت المقدس. فانتشرت في عهدهما المدارس وعمرت المساجد واحتفي بالعلماء، مما كان له بالغ الأثر في بث روح الجهاد لأجل تحرير البيت المقدس في الأمة.
تولى عماد الدين زنكي حكم الموصل وما يتبعها عام 521 هـ = 1127 م، وأعلن عزمه على الجهاد ضد الصليبيين، وذلك بعد مقتل والده آق سنقر الذي كانت له جولات أيضا في محاربتهم. وعرف زنكي بحزمه وشجاعته، كما عرف برعايته للجند وحرصه على أهليهم، مما كان له بالغ الأثر في نفوسهم. ففي سعيه لتطبيق استراتيجية التوحيد بهدف التحرير، واجه زنكي بحزم الحكام الذين وقفوا حجر عثرة في طريق تحقيق الوحدة الإسلامية، دون أن يتوانى عن مواجهة الصليبيين لكسر الهيبة منهم. فضم حلب وحماة، وعمرهما بالعدل، وحرر إمارة الرها Edessa، أولى الممالك الصليبية في الشرق، وذلك عام 539 هـ = 1144 م، مما عزز معنويات المسلمين إلى حد كبير. ولكن، لم يكتمل لزنكي فتح دمشق بعد أن تحالف حكامها مع الصليبيين لمنعه من ضمها. وبعد نحو 20 عاما قضاها مجاهدا، قتل زنكي شهيدا على يد جماعة من مماليكه بينما كان يحاصر قلعة جعبر، ليترك علما في ساحات العلم والجهاد هو ابنه نور الدين محمود.
ظن الفرنجة بعد استشهاد زنكي أنهم تخلصوا من خصم عنيد هدد وجودهم في الشام، وسرعان ما انقضوا على الرها في محاولة لاستعادتها بعد شهر واحد من تولي ابنه نور الدين محمود حكم حلب في عام 541 هـ = 1146 م. وكان سيف الدين غازي، أخو نور الدين محمود، قد آل له حكم الموصل، نزولا على سنة تقسيم الإمارات بين أبناء الولاة في ذلك العهد. وأثبت محمود الذي كان يبلغ 30 من عمره في هذا الوقت جدارته وأفشل محاولة الفرنجة. كما أفشل الحملة الصليبية الثانية على الشام والتي سعت لتثبيت أقدام الفرنجة بعد الهزائم المتوالية لهم على يد أبناء البيت الزنكي.
وتميز محمود بن زنكي بأنه كان عالما زاهدا عادلا، أحبه الناس، واعتبره بعض المؤرخين من أفضل الحكام سيرة في التاريخ الإسلامي، ووضعوه في مصاف الخلفاء الراشدين الأربعة وخامسهم، عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنهم جميعا. وحرص نور الدين على اتباع سياسة المهادنة واللين مع المسلمين لأجل إتمام مرحلة الوحدة ضمن استراتيجية التحرير. ولذا، لم يتمكن من ضم دمشق، التي تعد أهم حاجز بينه وبين الصليبيين في الشام، إلا بعد نحو 8 أعوام من توليه الحكم، وتحديدا في عام 549 هـ = 1154 م، وذلك إثر وفاة صاحبها معين الدين أنز وشروع الصليبيين في السيطرة عليها.
وبعد أن أتم الملك العادل نور الدين توحيد الشام، اتجهت أنظاره إلى مصر لإتمام المرحلة الثانية في استراتيجية التحرير وهي توحيد الشام ومصر، وذلك في وقت تطلع فيه الفرنج إليها أيضا مع ضعف الحكم الفاطمي فيها وتنازع الوزراء والقادة للسيطرة عليها. فقد استعان ضرغام، أحد قادة الفاطميين المشهورين، بالصليبيين على شاور، وزير الخليفة الفاطمي العاضد بالله. ولمواجهة هذا الحلف، لم يجد شاور بدا من الاستعانة بدوره بنور الدين. فأرسل نور الدين إلى مصر أحد قواده المختارين، وهو الكردي، أسد الدين شيركوه Asad al-Din Shirkuh، والذي اصطحب معه ابن أخيه صلاح الدين المولود في تكريت بالعراق، ليواجه ضرغام ويقضي عليه. ولكن شاور خشي سيطرة شيركوه على مصر بعد ذلك، فعاد ليستعين بالفرنجة لإخراج جند نور الدين منها. وما لبث شيركوه أن انتصر على شاور وحلفائه الفرنجة/ الصليبيين وذلك بعد أن استغاث به الخليفة العاضد نفسه ليمنع سقوط مصر في يدهم بعد أن تعاظم خطرهم في البلاد.
وهكذا، نجح شيركوه في طرد الصليبيين من مصر، ليصبح وزيرا لها في ظل الخلافة الفاطمية. وما لبث أن توفي شيركوه، فعين العاضد صلاح الدين خلفا له، وذلك في عام 564 هـ = 1169 م. وعمل الناصر صلاح الدين على توطيد دعائم سلطته في مصر، خاصة بعد أن أحبه المصريون لتخليصهم من أذى الفرنجة. فحرص على نشر العلم فيها واستبدال المذهب السني بمذهبها الشيعي. وبعد نحو سنتين، أمره نور الدين بإسقاط الخلافة الفاطمية في مصر، وإعلان تبعيتها للخلافة العباسية، وهو ما تم، دون أية معارضة، بل ودون أن يعلم العاضد بذلك إلى أن توفي بعد ذلك بقليل.
واستتب الأمر لنور الدين في مصر والشام، وورد مرسوم من الخليفة العباسي بتسميته "سلطان مصر والشام"، وواصل توسيع مملكته الموحدة، فشملت الموصل واليمن. ومن ثمّ، شرع السلطان العادل بالتجهز لملاقاة الصليبيين في معركة فاصلة بالشام، وعزم على التوجه لمصر ليتعجل تحرك صلاح الدين بجنده من مصر حتى يطبقا على الصليبيين. ولكن المنية وافته في شوال 569 هـ = أبريل 1174 م، بعد أن أتم المرحلتين الأولى والثانية من استراتيجية التحرير، وساهم بتحقيق نهضة شاملة للمسلمين، على مدى 28 عاما، وأيضا بعد أن صنع منبرا جميلا على أمل أن يضعه في المسجد الأقصى المبارك بعد التحرير.
منبر نور الدين زنكي المصنوع في حلب الشهباء (المصدر: دورة علوم الأقصى – د. عبدالله معروف)
استقل الناصر صلاح الدين بحكم مصر بعد وفاة نور الدين، في وقت تنازع فيه آل البيت النوري على الحكم في باقي أنحاء مملكة نور الدين لصغر سن ابنه. وكانت سيرة صلاح الدين يوسف بن أيوب أشبه بسيرة سلفه نور الدين محمود. فكان محبا للعلماء مقربا لهم، زاهدا، عادلا، سمحا. وعزم على إتمام استراتيجية التحرير من خلال توحيد الشام مع مصر من جديد. فعاد ليواجه نزعة التفرقة التي حدت ببعض الحكام للسعي وراء السيطرة ولو على مدينة صغيرة أو مجرد قلعة. واستغرقه هذا الأمر نحو 12 سنة أخرى حتى أتم توحيد دولة نور الدين من جديد.
في هذه الأثناء، لم ينقطع صلاح الدين عن مناوأة الصليبيين لكسر شوكتهم، وللتعرف على مواطن القوة والضعف فيهم. فغزاهم في عسقلان عام 573 هـ من جهة مصر، وفتحها. وفي عام 575 هـ غزاهم من جهة الشام قرب بانياس وأنزل بهم هزيمة كبيرة أسر فيها عددا من قادتهم. واستمر الحال كذلك إلى أن نضجت الظروف لملاقاتهم في معركة فاصلة، خاصة بعد أن غدر أرناط (رينولد دي شاتيون Raynald of Chatillon)، حاكم الكرك الصليبي، بحجاج بيت الله الحرام، ورفض الاستجابة لطلب صلاح الدين بإطلاق قافلة لهم كان قد استولى عليها عام 582 هـ.
موقع معركة حطين (المصدر: بيت المقدس والمسجد الأقصى – دراسة تاريخية موثقة – محمد حسن شراب)
كان السلطان الناصر صلاح الدين عظيم الشوق للبيت المقدس، وكان كثيرا ما يرى متجهما، ويقول "كيف أبتسم وبيت المقدس أسير؟" ولذا، أحسن الاستعداد للمعركة الفاصلة التي خطط لها مع الصليبيين في موقعة حطين Battle of Hattin، بشمال فلسطين، في جمادى الأولى عام 583 هـ = يوليو 1187 م، دون أن يغفل حسن التوكل على الله تعالى. وكان النصر حليفه، فأنزل بالفرنجة هزيمة ساحقة، وأسر معظم ملوكهم، ومن بينهم صاحب الكرك الذي رفض السلطان العفو عنه أسوة بباقي الملوك، وقتله وفاء بنذر أطلقه بسبب تعرض أرناط للحجاج.
ومن ثم، انطلق صلاح الدنيا والدين ليجلي الصليبيين عن المدن الواقعة حول بيت المقدس شمالا وجنوبا بشكل حلزوني، على مدى شهرين، حرر خلالهما معظم مدن ما يعرف اليوم بفلسطين ولبنان. وبعدما اجتمعت له جيوش مصر والمغاربة، سار إلى بيت المقدس، فحاصرها لمدة 12 يوما. وبعدما نقب جنود السلطان الناصر سور المدينة في زاويته الشمالية الشرقية، أسقط في يد الصليبيين، فطلبوا الصلح. وأجابهم صلاح الدين على أن يجلوا عنها مقابل فدية عن كل منهم. وهكذا، أتم الله على يدي الناصر يوسف بن أيوب الفتح الإسلامي الثاني للمسرى الحبيب في 27 رجب 583 هـ = 2 أكتوبر 1187 م، بالتزامن مع حلول ذكرى الإسراء والمعراج بالرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم.
وتوجد حتى اليوم، وفوق محراب المصلى القبلي، المصلى الرئيسي بالمسجد الأقصى المبارك، كتابة تاريخية تخلد ذكرى هذا الفتح العظيم الذي أسعد قلوب المسلمين في كل مكان، وأطلق ألسنة الشعراء والخطباء بحمد الله تعالى والثناء على فتوح عبده صلاح الدين.
كتابة العز التاريخية للسلطان صلاح الدين فوق محراب المصلى القبلي (المصدر: دورة علوم الأقصى – د. عبدالله معروف)
اتبع صلاح الدين مع الفرنج الذين كانوا يحتلون بيت المقدس سيرة سلفه الفاروق عمر، صاحب الفتح الأول، رضي الله عنه. ورغم المذبحة الهائلة التي كانوا قد ارتكبوها بحق المسلمين قبل أقل من قرن في المدينة المقدسة، لم يغدر بهم، وتركهم يخرجون بأموالهم سالمين بعد أن يدفعوا الفدية المقررة عليهم. بل لقد فدى بنفسه كثيرا من فقراء الفرنجة غير القادرين على دفع تلك الفدية، في حين رفض الكثير من أغنيائهم ذلك وفضلوا الخروج بأموالهم المكتنزة دون أن يمدوا يد العون لأبناء جلدتهم.
وعاد المسجد الأقصى المبارك طاهرا عزيزا، حيث أزيلت الصلبان، ورفع الأذان، وأقيمت الصلاة بعد غربة طويلة، واستعادت الأرض المباركة أمنها وسلامها. وحمل صلاح الدين إلى الأقصى منبر نور الدين زنكي الذي كان قد صنع في حلب قبل نحو 20 عاما. فوضعه في صدر المصلى القبلي، المصلى الرئيسي في المسجد المبارك. وأقيمت أول جمعة في الأقصى بعد الفتح في الجمعة التي تلت جمعة الفتح، وألقيت فيها خطبة جليلة تركزت حول شكر نعمة الله تعالى الواحد الأحد على المسلمين بالإيمان وبالنصر. (رابط أول خطبة بعد الفتح الصلاحي)
بعد فتح بيت المقدس، واصل الناصر صلاح الدين تطهير الأرض المباركة من الصليبيين. ففتح الكرك، وأجلى الفرنجة عن كامل فلسطين، بل وعن كامل لبنان، ما عدا صور التي تجمع فيها أمراؤهم الذين كان السلطان قد عفا عنهم بعد حطين. وبعد أن وصل مدد من السواحل الإيطالية إلى تلك المدينة، عاد أولئك الفرنجة ليكونوا شوكة أمام المسلمين، خاصة بعد أن سيرت أوروبا حملة صليبية ثالثة قادها ثلاثة من ملوكها، منهم ريتشارد الأول ملك انجلترا، في محاولة للاستيلاء مجددا على بيت المقدس. فاحتل الصليبيون المنطقة الساحلية الممتدة من صور حتى يافا. ولكن حملتهم باءت بالفشل، واكتفوا بعقد صلح الرملة مع السلطان صلاح الدين الذي أتاح لحجاجهم زيارة المدينة المقدسة للتبرك فقط.
في هذه الأثناء، أعاد صلاح الدين بناء سور المدينة المقدسة لتحصينها من أية هجمات صليبية جديدة. وأغلق ثلاثة من أبوابها المتحدة في جزء من سوريها الجنوبي والشرقي، مع المسجد الأقصى والمبارك. وهذه الأبواب هي: الباب المزدوج، و الباب الثلاثي، وكلاهما في السور الجنوبي للأقصى وللقدس، و بابا الرحمة والتوبة (والذي يطلق عليه الصليبيون اسم الباب الذهبي ويزعمون أن المسيح عليه السلام سيعود في قيامته الثانية منه إلى المدينة) والموجود في السور الشرقي لكل من المسجد الأقصى ومدينة القدس. وبعد ستة أشهر من عقد صلح الرملة، توفي السلطان الناصر، رحمه الله، في دمشق في عام 589 هـ = 1193 م، بعد أن أدى أمانته، ووحد الشام ومصر واليمن والحجاز، وحرر البيت المقدس.
دولة صلاح الدين الأيوبي (المصدر: بيت المقدس والمسجد الأقصى – دراسة تاريخية موثقة – محمد حسن شراب)
عاد نظام الحكم الوراثي المتبع في ذلك الوقت ليؤدي إلى الفرقة بين أبناء البيت الأيوبي Ayyubid بعد وفاة صلاح الدين، مما أعاد الصليبيين الذين كانوا قد كونوا إمارة جديدة في عكا Acre بشمال فلسطين إلى احتلال القدس مرتين خلال السنوات الخمسين التي حكم فيها الأيوبيون من خلفاء صلاح الدين مصر والشام. فقد انقسمت مملكة صلاح الدين بين أبنائه وإخوته والذين تنازعوا فيما بينهم لأجل السيطرة والنفوذ، بل واستعان بعضهم بالصليبيين على بني جلدتهم، مما كان له بالغ الأثر في إضعافهم أمام الحملات الأوروبية المتوالية على الشام ومصر أيضا، والتي شملت حملة رابعة توقفت عند القسطنطينية، وخامسة فشلت في مصر، وسادسة اعتبرت تكملة للحملة الخامسة وانتهت باحتلال القدس.
ففي عهد حاكم مصر، الملك الكامل بن الملك العادل أخو صلاح الدين، والذي خشي أن يحتل الصليبيون مصر خلال حملتهم السادسة التي وصلت إلى عكا، عقد معهم صلحا عرف بمعاهدة يافا في عام 626 هـ = 1229 م، ليحمي مصر وليثير سخط المسلمين في كل مكان. فقد سمح هذا الصلح للصليبيين باحتلال القدس لمدة عشر سنوات، بشرط عدم إحداث تغيير بالمسجد الأقصى المبارك، وبشرط عدم تجديد سور المدينة الذي كان أخو الكامل، الملك المعظم عيسى، حاكم الشام، قد هدمه، قبل وفاته، خوفا من تحصن الصليبيين وراءه في حال عودتهم لاحتلال المدينة المقدسة، في ظل الخلافات الكثيرة التي أضعفت البيت الأيوبي. وبعد وفاة الكامل، عاد حاكم الشام، الملك الناصر داود بن الملك المعظم عيسى، ليخلص القدس من الصليبيين، بعدما رأى تحصنهم فيها مخالفة للصلح، مع انتهاء مدته. ولكن الناصر نفسه ما لبث أن تحالف معهم هو الآخر في حربه ضد حاكم مصر، الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل، فسلمهم القدس في عام 638 هـ، أي بعد عام واحد من إخراجهم منها.
وعظم الخطب على المسلمين، وعمت البلوى بفقد البيت المقدس ثانية. ولكنهم لم يعدموا علماء عاملين وقفوا يصدحون بالحق وينكرون صنيع الناصر في الشام، ومن قبله صنيع الكامل في مصر. وبرز من هؤلاء العلماء العز بن عبد السلام وسبط ابن الجوزي.
ورغم أنه حاول الاستعانة الصليبيين أيضا في مرحلة من مراحل صراعه مع باقي أبناء البيت الأيوبي، قرر الملك الصالح، آخر ملوك بني أيوب، بعد أن استعان بأهل مصر والشام الرافضين للتدنيس الصليبي للمدينة المقدسة، مواجهة حلف الناصر مع الصليبيين. فألف جيشاً من المماليك الذين كان لهم شأن عظيم في تاريخ الدولة الإسلامية فيما بعد، وتمكن من استرداد القدس وإخراج الصليبيين منها نهائيا في عام 643 هـ = 1245 م.
على الرغم من ميل ملوك بني أيوب للفرقة والنزاع، مما أضعفهم، وأفقدهم البيت المقدس مرتين، فقد تركوا آثارا كثيرة جليلة فيه وفي محيطه القريب. ففي عهد الأفضل بن صلاح الدين al-Afdal bin Saladin، حاكم الشام، وقفت حارة المغاربة المحاذية لحائط البراق في السور الغربي للمسجد الأقصى المبارك، على المغاربة الذين قدموا للمشاركة في الفتح الصلاحي، وبنيت فيها المدرسة الأفضلية. وفي عهد الملك المعظم عيسى بن الملك العادل، والذي أحب القدس حبا جما، أقيمت كثير من المنشآت داخل المسجد الأقصى، منها صهريج عيسى، وسبيل شعلان لتوفير المياه في المسجد المبارك، كما أقيمت المدرسة (أو القبة النحوية) في الزاوية الجنوبية الغربية من صحن الصخرة الواقعة في قلب الأقصى، وكذلك أقيم رواق عرضي في مدخل المصلى القبلي الرئيسي في المسجد الأقصى، فضلا عن إقامة مطهرة على بعد 50 مترا من السور الغربي للمسجد الأقصى، يولج إليها من باب المطهرة في هذا السور.
أهم الآثار الأيوبية في المسجد الأقصى (المصدر: دورة علوم الأقصى – د. عبدالله معروف)
غير أن تخليص الأرض المباركة من براثن الصليبيين نهائيا لم يتم إلا في عهد المماليك Mamluks الذين أعقبوا الأيوبيين في حكم مصر ثم الشام. فقد توفي الملك الصالح أيوب سلطان مصر والشام، في وقت حاصر فيه الصليبيون دمياط بمصر في إطار حملتهم السابعة، بزعامة لويس التاسع ملك فرنسا. ولكن زوجته، شجرة الدر، نجحت في إدارة البلاد، وقيادة المعركة ضد الصليبيين حتى هزيمتهم. وبعد مقتل ابنه توران شاه الذي آل إليه الأمر بعد ذلك، على يد مماليك أبيه، لسوء سيرته، تولت شجرة الدر الحكم، ثم تزوجت من عز الدين أيبك أحد أمراء المماليك، وتنازلت له عن سلطنة مصر، في سنة 648 هـ = 1250 م، لتبدأ بذلك دولة المماليك الذين يوصفون بالأئمة والذين أثبتوا جدارة في وقت أضيف فيه خطر المغول أيضا إلى خطر الصليبيين على الأمة الإسلامية.
سرعان ما استباح المغول، الذين كانوا قد استولوا على الصين وكوريا، وسيطروا على مناطق المسلمين في تركستان وأفغانستان والهند وفارس، الخلافة العباسية في العراق، فقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله، واحتلوا العاصمة بغداد في سنة 656 هـ = 1258 م. وشرع المغول من فورهم في إسقاط مدن الشام الكبرى، مدينة تلو أخرى. وكانوا في اكتساحهم للعالم المعروف آنذاك، والذي شمل روسيا وأجزاء من أوروبا، يثيرون الرعب في نفوس أعدائهم بالمذابح الرهيبة التي يرتكبونها، مما كان له بالغ الأثر في تقدمهم. وفي محاولة لاستغلال هذا النجاح، وجه قائدهم هولاكو رسالة تهديد إلى سلطان المماليك آنذاك، السلطان المظفر، سيف الدين قطز محمود بن ممدود Saif ad-Din Qutuz، والذي يعد ثاني أهم سلاطين المماليك بعد عز الدين أيبك، يطلب منه فيها تسليم مصر. غير أن محمودا، الذي كان قد أنهى تمردا في الشام لتوه، والذي عرف بصلاحه وتقواه، اختار مواجهتهم.
واستعان السلطان المظفر بالعلماء لبث روح الجهاد وتعزيز الروح المعنوية في نفوس المسلمين، خاصة بعد سقوط دمشق وحلب بيد المغول، وإقدام هؤلاء على ارتكاب المذابح الرهيبة بحق أهلهما. وبعد أن استكمل عدته، خرج بجنده من مصر لملاقاة المغول في الشام، ووقف أمامهم في موقعة عين جالوت Battle of Ain Jalut، شمال شرقي فلسطين، رافعا راية واإسلاماه، ليلحق بهم هزيمة منكرة في يوم الجمعة 25 رمضان 658 هـ = 6 سبتمبر 1260 م. وبهذا، أوقف محمود، الذي عرف من ثم بقاهر التتار، الزحف المغولي على العالم الإسلامي، وطارد فلولهم حتى دمشق، فحررها، ووحد الشام ومصر من جديد.
في نفس هذا العام، خلف الملك الظاهر، ركن الدين بيبرس Baibars، السلطان المظفر قطز، في حكم مصر والشام. فوطد هذا سلطان دولة المماليك، واستقدم الخليفة العباسي إلى القاهرة ليظل منصبه شرفيا طيلة حكم المماليك إلى أن آل الأمر إلى العثمانيين بعد نحو قرنين ونصف. وكانت لبيبرس، الذي اتسم عهده بالاستقرار، وامتد 17 عاما، صولات وجولات في مواجهة الصليبيين الذين كانوا لا يزالون يحتفظون بمملكة في عكا، والذين تحالفوا مع المغول للقضاء على المسلمين وللعودة لاحتلال بيت المقدس. فاسترد منهم قيسارية وأرسوف، ثم أنطاكيا عام 1267 م، والتي كان فتحها أعظم انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ الفتح الصلاحي لبيت المقدس.
مسجد الظاهر بيبرس في القاهرة
كما حقق السلطان المنصور سيف الدين قلاوون، والذي دام حكمه 10 سنوات من عام 1280 م إلى عام 1290 م، عدة انتصارات على الفرنجة في الشام حتى لم يعد بأيديهم سوى عكا وصور وصيدا وعتليت. وبعد أن عقد قلاوون عزمه على الهجوم على عكا لإجلائهم عن آخر معاقلهم بالشام، وافقته المنية. لكن ابنه الأشرف خليل بن قلاوون al-Ashraf Khalil، الذي تولى السلطنة بعده، أكمل الاستعدادات لمهاجمة الصليبيين، وهاجمهم بالفعل رغم محاولاتهم إقناعه بالعدول عن ذلك وعقد هدنة. فحاصرهم في عكا، وأخرجهم منها في عام 690 هـ = 1291 م. وخلال الأشهر التي تلت ذلك، ظل الملك الأشرف يتتبع الصليبيين حتى أخرجهم من باقي أماكن تواجدهم بالمنطقة بشكل نهائي، وذلك بعد قرنين من بدء حملاتهم، ليخلد التاريخ اسمه في سجل الفاتحين العظام.
وكما شهد عهد المماليك القضاء على آخر وجود صليبي بالشام تماما، شهدت القدس ومسجدها الأقصى المبارك، في عهدهم، عصرا ذهبيا انتعشت فيه الحركة العلمية والعمرانية بالمدينة التي لا تزال تحتفظ بطابعها المملوكي حتى اليوم. وشاع في هذه الفترة وصف المسجد الأقصى المبارك بالحرم تشريفا له، رغم عدم صحة هذا الوصف شرعا، نظرا لأن تحريمه لم يرد في الكتاب ولا في السنة. وابتكرت وظيفة "ناظر الحرمين الشريفين"، ويقصد بهما المسجد الأقصى في القدس، والمسجد الإبراهيمي في الخليل، للإشراف على شئون القدس والخليل خاصة، لما لهما من أهمية دينية.
وبرزت الحركة العمرانية المملوكية خاصة في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون Al-Nasir Muhammad bin Qalawun والذي دامت فترة حكمه الثالثة 32 عاما من سنة 709 هـ = 1309 م إلى سنة 741 هـ = 1341 م. فقد تميز عهده بالاستقرار بعد القضاء على فلول الصليبيين، واعتبر من أزهي عصور حكام دولة المماليك الأولى (المماليك البحرية Bahri Mamluks)، وآخر أهمها. فأنشئت في عهده الكثير من المدارس والخانقات والربط في المسجد الأقصى المبارك ومحيطه القريب وعمر بالعباد والزهاد وطلاب العلم.
ومن أبرز المنشآت التي تمت في عهد الناصر محمد: رباط الكرد بجانب باب الحديد (باب أرغون)، أحد الأبواب الغربية للمسجد الأقصى المبارك، والمدرسة الدوادارية (جزء منها يستخدم اليوم لمدرسة ثانوية الأقصى الشرعية) في مدخل باب العتم (باب فيصل/العتم) في السور الشمالي للأقصى، والمدرسة الجاولية (إحدى ثلاث مدارس تكون ما يعرف بالمدرسة العمرية) بمحاذاة الزاوية الشمالية الغربية للمسجد الأقصى المبارك. والمدرسة العمرية مدرسة شهيرة استخدمت دارا للحكم في العهد العثماني، ثم مدرسة، ثم رباطا للمجاهدين الفلسطينيين في عصر الاحتلال البريطاني. وكذلك أنشئت في عهد الناصر محمد بن قلاوون المدرسة الكريمية بباب حطة، والمدرسة التنكزية بباب السلسلة في السور الغربي للمسجد، والتي استخدمت محكمة شرعية في العهد العثماني، والمدرسة الأمينية إلى الغرب من باب العتم في السور الشمالي للمسجد، والمدرسة الملكية في السور الشمالي للأقصى، وكذلك الخانقاه أو الزاوية الفخرية إلى الغرب من جامع المغاربة (المتحف الإسلامي حاليا) بالمسجد الأقصى المبارك.
أهم الآثار المملوكية في المسجد الأقصى (خاصة في الرواق الغربي)
وفي عهد الناصر بن قلاوون أيضا، أضيفت الزخارف المملوكية الراقية لقبتي الجامع القبلي والصخرة من الداخل، والكتابة التأريخية للسلطان صلاح الدين والسلطان محمد بن قلاوون. كما أنشئ سبيل الكأس في الساحة الممتدة بين قبة الصخرة والمصلى القبلي. كلك أقيم باب القطانين الذي يعد من أجمل وأكبر أبواب المسجد الأقصى المبارك في وسط السور الغربي للمسجد المبارك.
وفي عصور المماليك الذين خلفوا محمد بن قلاوون حتى قيام دولة المماليك الثانية (المماليك البرجية Burji Mamluks) عام 784 هـ = 1382 م، أقيمت عدة مدارس، هي: المدرسة الفارسية في السور الشمالي للأقصى بين المدرسة الأمينية في الشرق والمدرسة الملكية في الغرب، وأيضا المدرسة الأسعردية، في السور الشمالي للأقصى ، قرب المدرسة الجاولية (التي هي جزء من المدرسة العمرية). كما أقيمت المدرسة المنجكية في السور الغربي للأقصى شمالي باب الناظر.
كذلك أبدت دولة المماليك البرجية اهتماما بالغا بالقدس وعمارتها. فأنشئت في عهدها المدارس: الصبيبية (تعد أيضا جزءا من المدرسة العمرية وتقع غربي المدرسة الأسعردية)، في السور الشمالي للأقصى، ومدرستان: المدرسة الباسطية والمدرسة الغادرية، وكلتاهما في الرواق الشمالي للأقصى، وكذلك المدرسة العثمانية بباب المطهرة في السور الغربي للأقصى.
أهم الآثار المملوكية في المسجد الأقصى (خاصة في الرواق الشمالي)
وبرز من بين سلاطين دولة المماليك الثانية الملك الأشرف برسباي الذي أوقف قريتين في غور الأردن على قبة الصخرة المشرفة، والملك الأشرف إينال والذي وضع المصحف الشريف في المصلى القبلي بالأقصى ورتب له قارئا. كما برز من بينهم الملك الأشرف قايتباي والذي تولى الحكم عام 872 هـ = 1467 م، وتوفي عام 901 هـ = 1496 م، والذي يعد من أهم سلاطين دولة المماليك البرجية. فجدد في عهده بناء السبيل المعروفة باسمه، سبيل قايتباي، في الساحة الغربية للأقصى المبارك فوق البئر المقابلة لدرج الصخرة. كما جدد بناء المدرسة الأشرفية والتي عدها المؤرخون الجوهرة الثالثة في المسجد الأقصى المبارك. وبدوره، أبدى السلطان قنصوه الغوري، الذي كان من أواخر ملوك هذه الدولة، اهتماما بإعمار المسجد الأقصى المبارك، على الرغم من المشاكل التي واجهته. فكسا سطح المصلى القبلي الرئيسي بالأقصى وقبته بالرصاص وتركه في هيئة هي أقرب لهيئته الحالية.
كان الضعف قد دب في الدولة المملوكية منذ أواخر عهد الملك الأشرف قايتباي، فأصابها ما يصيب الأمم والحضارات من أسباب الضعف، كالمظالم، والإسراف في مظاهر الترف والبذخ. ولكن الحضارة الإسلامية، بخلاف غيرها من الحضارات، ما فتئت تحمل رايتها أمة بعد أمة، ودولة بعد دولة، كلما ضعفت إحداها في موضع، ظهرت أخرى في موضع آخر لتواصل حمل الراية. ففي هذه الأثناء، برزت قوة الأتراك العثمانيين Ottomans في تركيا وشرق أوروبا، خاصة بعد أن تمكن سلطانهم محمد الفاتح، في سنة 857 هـ = 1453 م، من فتح القسطنطينية التي بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتحها، وامتدح فاتحها وجيشه قبل أكثر من 9 قرون.
وسرعان ما أظهر العثمانيون جدارتهم لقيادة الأمة الإسلامية بتمكنهم من توحيد أجزاء كبيرة من دولة الإسلام في المشرق والمغرب لمواجهة عدوان الدولة الصفوية في إيران من جهة، والغزو الأوروبي الأول للعالم الإسلامي في العصر الحديث من جهة أخرى. وكانت بوادر هذا الغزو قد ظهرت على يد البرتغاليين، بالتفافهم حول القارة الأفريقية، وتأسيس وجود محدود لهم في جنوب البحر الأحمر، بقيادة فاسكو دي جاما، في سعيهم للسيطرة على طرق التجارة بين الشرق والغرب، وإنهاء الهيمنة الإسلامية على هذه الطرق، بل وهددوا بمهاجمة البيتين الحرام والمدني في الحجاز من جهة الجنوب.
ففي عام 922 هـ = 1516 م، وقعت موقعة مرج دابق، على مشارف حلب، بين قنصوه الغوري وبين السلطان العثماني سليم الأول، والتي انتصر فيها العثمانيون ليسيطروا من ثم على الشام. كما انتصروا في العام التالي على طومان باي، آخر سلاطين المماليك، في موقعة الريدانية بالقاهرة، وأجبر السلطان سليم الأول الخليفة العباسي هناك على التنازل له عن الخلافة، لتنتقل بذلك من القاهرة إلى العاصمة العثمانية "القسطنطينية". وهكذا، تسلمت الراية الإسلامية دولة فتية جديدة لتكمل مسيرة الحضارة الإسلامية وتواصل تعمير المسجد الأقصى المبارك.
استطاع العثمانيون، وعلى مدى أربعة قرون، الحفاظ على وحدة المسلمين وقوتهم وحماية الأرض المباركة، قلب العالم الإسلامي، من حملات ملوك وأمراء وقادة أوروبا الذين ظلوا، منذ طردهم منها للمرة الثانية على يد صلاح الدين، يتحينون الفرصة للانقضاض عليها. فقد امتدت دولة العثمانيين لتشمل تركيا، والشام، ومصر، والسودان، والحجاز، والعراق، والخليج العربي، وشمال أفريقيا، بل وأجزاء واسعة من شرق أوروبا شملت اليونان، والبلقان، ووصلت حتى مشارف فيينا. وبذلك شملت أجزاء حيوية من قارات العالم القديم الثلاث؛ آسيا وأوروبا وأفريقيا، وضمت كل مدنها المهمة تقريبا، ما عدا روما، فكانت إحدى أقوى وأهم القوى العالمية في العصر الحديث.
خريطة توضح توسع الإمبراطورية العثمانية
وكانت للعثمانيين آثار وإنشاءات عظيمة في القدس الشريف، بدأت مع بداية حكمهم لها، واستمرت حتى نهايته، ودللت على مدى إدراكهم لقدسيتها واهتمامهم بها. فمع وصول السلطان سليمان القانوني إلى كرسي الخلافة عام 926 هـ = 1520 م، بعد وفاة أبيه سليم الأول، شهدت المدينة حركة عمرانية نشيطة استمرت طوال سني خلافته التي امتدت 46 عاما حتى وفاته سنة 1566 م. فهو الذي عمر سور المدينة الحالي، والذي يتحد مع سور المسجد الأقصى المبارك في زاويته الجنوبية الشرقية، وجدد إغلاق بابا الرحمة والتوبة (الباب الذهبي) في السور الشرقي للأقصى وللمدينة. كما جدد قبة الصخرة وأعاد تبليطها، واستبدل الفسيفساء الأموية المذهبة في جدارها الخارجي بالقاشاني الأزرق الذي نراه اليوم. كما أنشأ سليمان القانوني عدة أسبلة لتيسير وصول المياه إلى المدينة ومسجدها، من بينها سبيل سليمان في الساحة الشمالية للمسجد الأقصى المبارك إلى الشمال من باب العتم (باب فيصل/العتم).
فضلا عن ذلك، برزت فنون معمارية عثمانية خاصة في القدس ومسجدها المبارك، من بينها إنشاء التكايا، مثل تكية خاصكي سلطان التي أوقفتها روكسيلانة زوجة سليمان القانوني على الفقراء. كما ظهرت الخلاوى، ومفردها خلوة، وهي أماكن للاختلاء للعبادة ومدارسة العلم تركزت في صحن قبة الصخرة المشرفة في قلب المسجد الأقصى المبارك وحولها. وأضاف العثمانيون إلى القباب الموجودة في صحن الصخرة قبابا أخرى مثل قبة الخضر، وقبة الأرواح، وقبة النبي. إضافة إلى ذلك، يظهر الأثر العمراني العثماني في تجديد مئذنة باب الأسباط الأسطوانية القريبة من باب الأسباط في السور الشمالي للمسجد الأقصى المبارك.
أهم الآثار العثمانية في المسجد الأقصى (المصدر: دورة علوم الأقصى – د. عبدالله معروف)
وفي عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (والذي تولى الخلافة لمدة 33 عاما من سنة 1293 هـ = 1876 م، وحتى أجبر على التنازل عن العرش في سنة 1327 هـ = 1909 م)، تم تعمير المسجد الأقصى المبارك، ورصفت شوارع القدس رصفا هو الذي نراه اليوم في معظمها. كما أجريت في عهده مسابقة في الخط العربي على مستوى العالم الإسلامي كلف الفائز بها بكتابة سورة يس على الجدار الخارجي لقبة الصخرة في قلب المسجد الأقصى المبارك، فوق القاشاني العثماني، بينما كلف خطاط آخر بكتابة نفس السورة في الحرمين الشريفين.
جزء من جدار قبة الصخرة وعليه آيات من سورة يس التي كتبت كاملة على الجدار فوق القاشاني الأزرق في عهد السلطان عبد الحميد الثاني
على أن أهم ما أثر عن هذا السلطان هو تمسكه بالحفاظ على السيادة الإسلامية على القدس مع تصاعد الحركة الصهيونية. فقد منع هجرة اليهود إلى فلسطين وشراءهم الأراضي فيها، بموجب قانون صدر عام 1882 م، ثم عدل هذا القانون فسمح لهم بدخولها بقصد العبادة شريطة ألا يبقوا فيها أكثر من ثلاثة أشهر. وعلى الرغم من ضعف دولته في أواخر عهدها، رفض عروضا ضخمة قدمتها الحركة الصهيونية، بزعامة تيودور هرتزل، مقابل السماح بالاستيطان اليهودي في فلسطين. وأكد، في رد بليغ على هذه العروض (رابط لبعض ما ورد في الرد)، أن تقطيع أوصال الدولة العثمانية أهون عليه من التخلي عن هذه البقعة المباركة من الأرض. وكان لهذا الموقف أثر بالغ في عزله فيما بعد، ومن ثم إلغاء الخلافة الإسلامية على ما سنرى في المرحلة التالية من تاريخ الأرض المباركة.
وهكذا، لعبت قضية القدس والمسجد الأقصى المبارك دورا أساسيا في بعث نهضة المسلمين من جديد، ودفعهم، في عهد الأيوبيين والمماليك ثم العثمانيين، إلى تصحيح مسيرتهم بعدما أصابها من ضعف منذ الدولة العباسية الثانية. ورغم أنهم لم يعودوا لمثل سيرتهم الأولى ونقائهم الذي ميز عهد النبوة والخلافة الراشدة، إلا أنهم ظلوا الأقرب إلى طريق الأنبياء من بين الأمم الأخرى، ولذا، مكن الله لهم في الأرض، على مدى قرابة أربعة عشر قرنا هجرية = ثلاثة عشر قرنا ميلادية، فمثلوا بذلك أكبر عائق أمام قوى الظلام والجاهلية في انتشارها وازدهارها.