مظاهر عدل أرساها المسلمون في بيت المقدس عند الفتح الأول (بحث)

المجموعة الأم: المحتوي
نشر بتاريخ الجمعة, 01 تشرين2/نوفمبر 2013 19:03
الزيارات: 7117

 

إعداد: آيه يوسف – إشراف: د. عبدالفتاح العويسي

 

 

في مادة "بيت المقدس بين الاحتلال والتحرير 1099-1244م"

 

للفصل الأول من العام الأول في دبلوم دراسات بيت المقدس على الإنترنت

من مجمع دراسات بيت المقدس، بانجلترا

 

بتاريخ: 27-11-2011م

 

 

 

مقدمة

 

عني الإسلام بإرساء العدل بين الناس، على اختلاف أجناسهم وتنوع معتقداتهم، فذكر كتابه أن الله تعالى يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأكد رسوله صلى الله عليه وسلم ألا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، كما بيّن كتاب الله وبيّنت سنة رسوله أن التعارف هو الهدف من التنوع، وأن التدافع بين المختلفين سنّة حياتية تحفظ التوازن وتقيم الميزان.

 

وأكمل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم مسيرته، بعد وفاته، فأتموا فتح بيت المقدس عام 16ه/637م ليمكّنوا للإسلام ولرؤيته الفريدة في هذا المكان الذي يمثل مركز البركة للعالمين (العويسي). ومثّل الفتح الإسلامي الأول لبيت المقدس تأكيداً لسيادة مبدأ العدل في الأرض من خلال اتفاقية صلح تعد نموذجا يحتذى للأجيال القادمة. وفي السطور التالية، نبرز بعض مظاهر تطبيق الرؤية الإسلامية الشمولية القائمة على العدل في بيت المقدس، مما مهد لشيوعها في العالم أجمع.

 

 

فتح بلا تدمير

 

حرص الفاتحون المسلمون على أن يكون دخولهم إلى بيت المقدس إيجابيا بنّاءا لا تدميريا، تماما مثلما كان فتح رسولهم صلى الله عليه وسلم لمكة. فرغم ما لاقاه المسلمون من عنت الروم وغيرهم من المحاربين في بيت المقدس، والذي امتد شهورا وأعواما، منذ خرجوا إلى الشام أواخر عام 12ه وحتى أتموا اتفاقية الصلح عام 16ه، إلا أنهم لم يفسدوا فيها على عكس ما اعتادت الملوك قبلهم فعله بحق القرى عند دخولها، خاصة فيما يتعلق بمنطقة بيت المقدس والتي حفل تاريخها قبل الإسلام بالتدمير والتخريب (سورة الإسراء آية 7). وآثر الفاتحون الصلح على القتال، ومنح الأمان على فرض القوة. وأزيلت الأقذار عن المسجد الأقصى المبارك وعن صخرته دون إراقة دماء ودون المساس بأي من الكنائس القائمة خارج حدود المسجد المبارك.

 

 

أمان دون كثرة شروط

 

في مقابل شرطي دفع الجزية وإخراج المحاربين، تضمن عهد الأمان الذي أعطاه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيلياء، حسب نص الطبري (ت 310ه) والذي يعتبر الأشهر، كثيرا من التفصيل فيما يتعلق بـ "الأمان" الممنوح لأهلها على أنفسهم وأموالهم ودينهم، والذي وردت الإشارة إليه نحو 8 مرات في العهد، مما جعل الأمر يبدو كما لو أن المغلوب يملي شروطه على الغالب! وهذا ما اعتبره البرفيسور ترتون أمرا بالغ الغرابة قائلا إنه "لم تجر العادة أن يشترط المغلوبون الشروط التي يرتضونها ليوادعهم الغالب، إذ العكس هو الصحيح والمنطقي" (هويدي، ص206). ولكن هذه الغرابة يمكن تفسيرها في ضوء حرص الإسلام على إعلاء الكرامة الإنسانية وإرساء العدل.

 

فضلا عن ذلك، فإن ما عرف بالشروط العمرية لا تصح نسبته إلى عمر، وينتهي البرفيسور ترتون إلى أن هذه الشروط وضعت في المدارس الفقهية ثم نسبت إلى عمر (هويدي ص 211)، خاصة وأنها تناقض سيرة عمر المشهورة في العدل مع غير المسلمين.

 

 

دستور يجمع لا يفرّق

 

تميز عهد الأمان الذي منحه عمر لأهل إيلياء، خاصة في رواياته المبكرة ونصوصه الأولى، بخطابه الذي لم يفّرق بينهم على أساس الدين، مما يجعله دستور مواطنة. والحق أن المسلمين لم يلجأوا إلى تمزيق وحدة الصف أو إلى إثارة النعرات القومية أو الدينية بين سكان بيت المقدس حتى يضمنوا لأنفسهم الاستمرار في الحكم، مثلما هو ديدن المحتلين الغرباء في السابق واللاحق، بل أتاحوا للجميع فرصا متساوية للتعايش، في مقابل الاضطهاد الذي عانى منه نصارى بيت المقدس على يد الكنيسة الرومانية البيزنطية، والذي عانى منه أيضا اليهود على أيدي معظم النصارى في ذلك الوقت، وهذا ما أكدته المؤرخة البريطانية كارين أرمسترونج بقولها: "إن المسلمين قد أسسوا نظاما مكّن اليهود والمسيحيين والمسلمين من العيش في القدس معا لأول مرة." (العويسي)

 

ورغم أن نص العهدة العمرية عند الطبري تفرد من بين نصوصها الأولى بتضمنه شرطا يمنع اليهود من مساكنة النصارى في بيت المقدس، فإن مصادر عربية ومسيحية ويهودية تشير إلى أن جماعات يهودية أقامت ببيت المقدس بعد الفتح الإسلامي مباشرة لأول مرة منذ منعهم الامبراطور الروماني هدريان من دخولها عام 135م، بل وتشير رواية مبكرة وفريدة إلى أن عمر منح يهود الشام أيضا عهد أمان خاص بهم (العويسي).

 

 

مشاركة في بناء الوطن

 

شرط الجزية الذي تضمنته العهدة العمرية، في كثير من نصوصها، والذي يؤكده القرآن (سورة التوبة، آية 29)، لم يكن ابتكارا إسلاميا (هويدي، 128)، بل هو من أهم شروط الغالبين على المغلوبين في ميادين القتال في ذلك الوقت. كما أن الجزية تشبه إلى حد كبير الضرائب التي يفرضها الحاكمون على المحكومين مقابل حمايتهم، وتقابل الزكاة المفروضة على المسلمين، وتمثل صك انتماء ووسيلة مشاركة في بناء الدولة (العويسي). كما يؤكد العويسي أن أداءها بعد الفتح تميز باليسر والتخفيف فلم تؤخذ من الصغير ولا الطاعن في السن وكانت مقاديرها ضئيلة مقارنة بما كان يدفعه أهل إيلياء للروم قبل الفتح.

 

كذلك لم تتضمن العهدة العمرية، في أي من نصوصها، منعا لأي طرف من تولي الوظائف العامة في إقليم بيت المقدس، بعد أن كانت حكرا على الروم قبل الفتح، مما ساهم في إطلاق الحريات وتشجيع أهل الإقليم على المشاركة في بنائه على قدم المساواة. وفي هذا يؤكد هويدي أن العهد الأموي شهد إسناد الإدارة المالية في الدولة لأسرة مسيحية توارث أبناؤها وظائفها لمدة قرن منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، ومن أفرادها القديس والمؤرخ يوحنا الدمشقي المعاصر لمعاوية ولولده يزيد (ص 69) .

 

 

نموذج تدافع لا صراع

 

جاء التحول السلس المتدرج لبيت المقدس إلى الطابع العربي الإسلامي في السنوات التي تلت الفتح الأول ليثبت كونه نموذجا للتدافع والدفع بالتي هي أحسن بديلا عن التصارع. فقد أبقى المسلمون على كثير من الأوضاع الإدارية والمعيشية داخل إيلياء دون تعديل، فلم يغيروا اسمها، ولا حدودها، ولم يتخذوها عاصمة، إذ لم يكن همهم إضفاء الطابع الإسلامي عليها من خلال إقصاء الآخرين عنها أو نقل المسلمين إليها -وهو نقيض ما تفعله دولة الاحتلال الحالي لفلسطين-، بل ظل كل ما في داخل أسوار مدينة إيلياء المسورة في أيدي سكانها، في إطار ما أكدته أرمسترونج من حرص المسلمين على اعتماد الترتيبات القائمة في أية مدينة بعد فتحها (العويسي)، وأيضا في إطار ما أثر عنهم من إبقاء الأراضي في أيدي أهلها ليعمروها، ومن بناء مدن جديدة في مختلف البلاد المفتوحة لسكناهم، مثل مدينة الفسطاط في مصر، ومدينتي البصرة والكوفة في العراق. كما يؤكد د. هيثم الرطروط أن موضع المسجد الأقصى المبارك الذي جدد المسلمون بناءه بعد الفتح كان يقع أصلا خارج حدود المدينة (العويسي).  وهكذا ظلت مدينة بيت المقدس، كما تؤكد أرمسترونج، "في غالبيتها مدينة مسيحية" حتى بداية حروب الفرنجة التي أفسدت العلاقة بين شعوب المنطقة (العويسي)، والتي مهدت للفتح الثاني لبيت المقدس لاحقا على يد صلاح الدين الأيوبي عام 583ه/1187م، لتصطبغ المدينة منذ ذلك الحين بصبغة عربية إسلامية أرسخ.

 

 

خاتمة:

 

احتفلت بيت المقدس بعد الفتح العمري بالتعددية والتنوع، وقدمت نموذجا تجلت فيه أهم قيم الإسلام وهي قيمة العدل. ولعل مظاهر هذا العدل التي سردتها فيما سبق تعين على التخطيط لإنجاز الفتح القادم للأرض المقدسة بإذن الله.


 

المراجع:

 

  1. القرآن الكريم
  2. مواطنون لا ذميون، فهمي هويدي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الرابعة 2005م
  3. تصور جديد للعلاقات الدولية نماذج بيت المقدس لتفسير الأحداث المعاصرة وتوجيهها، أ. د عبد الفتاح العويسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع "مجد"، بيروت، 2012م