المرحلة الرابعة: العلو الروماني

المجموعة الأم: المحتوي
نشر بتاريخ الأربعاء, 05 حزيران/يونيو 2013 13:33
الزيارات: 6143

المرحلة الرابعة: تكالب أمم كافرة على الأرض المباركة قبل البعثة الخاتمة

 

من حوالي سنة 923 ق.م -  حوالي سنة  623م

 

 امتدت هذه المرحلة الأطول والأشد حلـكة من تاريخ الأرض المباركة لأكثر من 15 قرنا مع تحول بني إسرائيل إلى العصيان وإلى الكفر، ومع تداول الآشوريين، والفراعنة، والبابليين، والفرس، واليونانيين، ثم الرومان فالبيزنطيين السيطرة عليها. فخيم الظلام على المسجد الأقصى المبارك إلا من أنوار أنبياء بعثهم الله إلى بني إسرائيل في ذلك الحين لإنذارهم قبـل استبدالهم، منهم زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم الصلاة والسلام.

 

 

 

80 عاما فقط كان عمر الدولة الأولى والأخيرة التي أقامها أتباع التوحيد من بني إسرائيل على كل أراضي فلسطين. فبعد وفاة سليمان بن داود عليهما السلام (حوالي عام 923 ق. م)، عادت الحالة الإيمانية لدى غالبية بني إسرائيل (الأمة التي فضلها الله على العالمين في ذلك الوقت) إلى التدهور، فعصوا الله تعالى، واعتدوا على أنبيائه الذين توالوا فيهم. وكان عاقبة ذلك أن ضربت عليهم الذلة والمسكنة، فانقسمت المملكة التي كان داود وسليمان قد أقاماها على التقوى، وخضعت للممالك المجاورة بدرجة تفاوتت بحسب قوة هذه الممالك وضعفها، وعانى بيت المقدس من سيطرة أمم كافرة، وضياع هويته الموحدة، لفترات لم تكن بالقصيرة.

 

-        قال تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) البقرة 61

 

وبحسب الروايات اليهودية، جاء انقسام مملكة سليمان عليه السلام المؤمنة بعد وفاته إلى مملكة إسرائيل Israel في الشمال، وعاصمتها نابلس (كانت تعرف يومئذ باسمها الكنعاني "شكيم" Shechem)، ومملكة يهوذا Judah في الجنوب، وعاصمتها القدس (كانت تعرف باسمها الكنعاني "أورشليم") حيث المسجد الأقصى المبارك. واستمر الصراع محتدما بين المملكتين لقرون، فضعفت كل منهما، وأصبحت نهبا لجيرانها سواء من الفراعنة Pharaohs في مصر، أو من الآشوريين Assyrians، ثم البابليين Babylonians في العراق. فقد استحل فراعنة مصر أورشليم عدة مرات، واستولوا على ما فيها، وكان منهم الفرعون شيشق Shishaq الذي دخلها أواخر القرن 10 قبل الميلاد. وأخيرا، سقطت مملكة إسرائيل بعد قرنين، على يد الآشوريين (حوالي عام 721 ق.م)، بينما سقطت مملكة يهوذا بعد أربعة قرون، على يد البابليين (حوالي عام 586 ق. م).

 

وتسهب المصادر اليهودية في الحديث عن مظاهر تخريب الملك البابلي نبوخذ نصر Nebuchadnezzar II للمدينة المقدسة، وعن تدميره المسجد الأقصى المبارك الذي كان قد جدده سليمان عليه السلام (ويطلق عليه بالعبرية اسم "البيت"، بينما يطلق عليه الصهاينة الذي يحتلون الأرض المباركة حاليا اسم "المعبد" أو "الهيكل" زورا ويعتبرون أن سليمان أول من بناه). وتذكر هذه المصادر أن أهل المدينة تم نفيهم إلى بابل، فيما يعرف بالسبي البابلي. ويعتقد أن المنفيين في بابل من بني إسرائيل بدءوا عندئذ، ولأول مرة، في تدوين التوراة المتداولة اليوم (بعد مرور حوالي 7 قرون على نزولها على موسى عليه السلام).

 

دالت دولة بابل، وضعفت، فما لبث الفرس Persians أن سيطروا عليها وعلى الأراضي التابعة لها (حوالي عام 539 ق.م)، فسمح ملكهم كورش Cyrus لبني إسرائيل بالعودة إلى أورشليم. وتذكر المصادر اليهودية أن بعضهم عاد بالفعل، وأسس مملكة يهوذا مرة أخرى، وأعاد بناء البيت المقدس (يطلقون عليه بالعبرية "البيت الثاني" ويعتبرونه البناء الثاني للمسجد). وكان يعهد  بالحكم في تلك المملكة لسبط يهوذا، والذي اعتبر أهم الأسباط [1] الاثني عشر، أبناء إسرائيل عليه السلام، فسميت المملكة بهذا الاسم، وإليه أيضا ترجع تسميتهم المعروفة تاريخيا باليهود Jews. والأرجح أن بني إسرائيل تمتعوا بنوع من الحكم الذاتي تحت الهيمنة الفارسية، ولكنهم لم يتمكنوا من استعادة كيانهم السياسي.

 

تعاقبت الأيام، ودالت دولة الفرس بدورها، فاحتل اليونانيون Greek فلسطين، وخضعت للإسكندر المقدوني Alexander the Great (حوالي عام 332 ق.م)، ثم لخلفائه البطالمة Ptolemaics، ثم للسلوقيين Seleucids. وفي عهد كل من الإسكندر والبطالمة، عاش بنو إسرائيل في أورشليم كإحدى الطوائف الدينية التي يرأسها حاكم من طائفتها. أما في عهد السلوقيين، فقد حاول هؤلاء الحكام الجديد فرض عبادة معبودهم "زيوس" على بني إسرائيل، ونصبوا التماثيل في البيت المقدس، فثار الأخيرون، وتمكنت طائفة منهم تشير إليها المصادر اليهودية باسم "المكابيين Maccabees" من الحصول على الاستقلال السياسي لفترة قصيرة (بين عامي 163 ق.م - 63 ق. م تقريبا).

 

وتحتفي المصادر اليهودية بهذه الفترة من الحكم الذي تداوله المكابيون وراثة، وتطلق على دولتهم اسم مملكة الحشمونائيم Hasmonean kingdom، وتذكر أن هذه الفترة شهدت صك النقد المعروف بالشيكل، وبناء قلعة في الزاوية الشمالية الغربية من المسجد الأقصى المبارك، في موضع المدرسة العمرية القائمة اليوم[2].

 

ولم يلبث هؤلاء المكابيون أن عادوا للصراع على الحكم، فانتهز القائد الروماني بومبي Pompey الفرصة، وحاصر القدس، واحتلها عام 63 ق. م، بعد أن قتل من سكانها خلقا كثيرا، لتخضع المدينة منذ ذلك الحين، ولنحو ستة قرون تالية، لحكم الرومان ثم خلفائهم البيزنطيين.

 

 مالت سياسة الرومان مع بني إسرائيل بين المال يغدقونه على رؤسائهم ليتحكموا بدورهم في رقاب الناس، وبين السيف يعملونه في رقاب من يثورون. وتميزت القدس في عصرهم بكثرة الثورات، والتي كثيرا ما تبعتها مذابح للسكان، ومن ضمنهم بنو إسرائيل، إضافة إلى تدمير المدينة الجليلة بسورها وبيتها المقدس.

 

كان من أوائل وأبرز الحكام الذين عينهم الرومان لحكم الأرض المباركة وسياسة بني إسرائيل الداهية هيرودس Herod the Great (حوالي عام 37 ق.م). وهو آدومي، أعلن أنه يهودي، واستأصل شأفة المكابيين، ثم حاول أن يوفق بين بني إسرائيل والرومان، ولما فشل في مهمته، شايع الرومان. ولاستمالة بني إسرائيل، اهتم هيرودس بإقامة منشئات عمرانية في أورشليم، فجدد بناء البيت المقدس (حوالي عام 20 ق.م)، كما أقام قلعة عظيمة بباب الخليل (يطلق عليها الصهاينة الآن اسم "قلعة داود" رغم أن مشيدها هو هيرودس).

 

قلعة هيرودس بباب الخليل في البلدة القديمة (يطلق عليها الصهاينة اسم قلعة داود زورا)

 

بهذا، فقد بنو إسرائيل  كل سيطرة سياسية، ولو ذاتية، على أورشليم، بينما بقيت لهم سيادة دينية على البيت المقدس. غير أن هذه السيادة الدينية لم تكن أكثر من مظهر ديني خلا من روح الإيمان، بعد أن نقض بنو إسرائيل الميثاق مع الله تعالى. وتذكر الروايات اليهودية الكثير عن مظاهر انتشار الفساد والانحلال، حتى إن عبادة الأوثان، ومن بينها بعل، معبود الكنعانيين، وجدت طريقها إلى هذه الأمة التي كانت مؤمنة. كما تقاتل الأحبار على الرئاسة الدينية، وكانوا لا يبالون بالجوع والقحط الذي يعاني منه الناس في سبيل مصالحهم، وانحطت الأخلاق، وكثرت الثورات، وأطلق عنان الشهوات والشرور. ويحكي القرآن الكريم جوانب كثيرة من مفاسد بني إسرائيل في هذه الفترة العاصفة من تاريخهم.

 

-        قال تعالى: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ. أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ. اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) البقرة 123- 126

-        قال تعالى: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ. وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) المائدة 70-71

 

ولكن، وقبل أن تحل سنة الاستبدال التام ببني إسرائيل، بعث الله تعالى إليهم ثلاثة من أنبيائه في وقت متزامن تقريبا، كان آخرهم هو رسوله وكلمته، عيسى بن مريم، Jesus of Nazareth عليه الصلاة والسلام، والذي ولد قبل وفاة هيرودس بسنة (حوالي عام 4م).

 

فقد بعث الله تعالى نبيه الكريم زكريا Zechariah عليه السلام، من أحد بيوت بني إسرائيل القليلة التي ظلت على إيمانها، وهم آل عمران الذين مدحهم عز وجل في كتابه العزيز لحرصهم على إنجاب ذرية طيبة تعبده تعالى وتطهر بيته المقدس، فكانوا مشعلا من نور بين ظلمات الكفر والجحود.

 

-        قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) آل عمران 33- 35

 

ورزق الله تعالى نبيه زكريا بابنه النبي يحيى John the Baptist عليهما السلام، على كبر سنه فيما يشبه المعجزة، بعد أن دعاه ليهبه من لدنه ذرية طيبة، تيمنا بالرزق الذي ساقه عز وجل لمريم بنت عمران، أخت زوجه، والتي كانت أمها قد نذرتها للعبادة في بيت الله المقدس.

 

-        قال تعالى: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ) الأنعام 85

-        قال تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ) آل عمران 39

 

كما رزق الله تعالى مريم عليها السلام، سيدة نساء العالمين في ذلك الحين، بابنها، المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، بلا أب، في معجزة حقيقية تشهد على نبوته، ليكون رسولا إلى بني إسرائيل، مصدقا لما بين يديه من التوراة، ومبشرا بالرسول الخاتم المبعوث إلى الخلق كافة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

-        قال تعالى: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ) آل عمران 49-50

-        قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) الصف 6

 

كانت بعثة هؤلاء الأنبياء الثلاثة رحمة ببني إسرائيل، واختبارا أخيرا لإيمانهم في نفس الوقت. فكان يحيى عليه السلام يعظهم داخل المسجد الأقصى المبارك، كما يفيد الحديث النبوي:

 

-        عن ‏الحارث الأشعري أن نبي الله ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏قال: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ وَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ فَقَالَ لَهُ عِيسَى إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغَهُنَّ وَإِمَّا أَنْ أُبَلِّغَهُنَّ فَقَالَ يَا أَخِي إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي قَالَ فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ فَقُعِدَ عَلَى الشُّرَفِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا..) مسند أحمد/ حديث 16542 ترقيم العالمية

 

 كما يذكر الإنجيل الذي بين أيدي النصارى اليوم أن رسول الله عيسى عليه الصلاة والسلام أنكر على بني إسرائيل انحرافهم عن عبادة الله تعالى داخل المسجد الأقصى المبارك، وتحويلهم إياه إلى مكان للبيع والشراء، و"مغارة لصوص"، محذرا من أن هذا الانحراف هو نذير بتدميره.

 

فقد كذب القساة الذين ألفوا العناد والكفر والظلم الأنبياء الثلاثة، بل سعوا في قتلهم، إذ وشوا بهؤلاء المصلحين إلى حكامهم الرومان، فقتلوا نبي الله يحيى، ثم أباه زكريا عليهما السلام، كما تآمر كفار بنو إسرائيل على عيسى عليه السلام، حسدا له وكفرا برسالته، فحاول حاكمهم الروماني في ذلك الحين، بيلاطس Pilate، صلبه وقتله، إلا أن الله تعالى توفاه ورفعه إليه (حوالي عام 33م).

 

-        قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) البقرة 87

-        قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً. وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) النساء 155- 159

 

ورغم وفاة عيسى عليه السلام، استمرت رسالته، إذ استمر أنصاره إلى الله، الحواريون apostles، في الدعوة إلى الله في أورشليم، وحققوا نجاحا، بينما استمر الكافرون من بني إسرائيل في التنكيل بالدعوة، خشية انتشارها، واضطهدوا النصارى المؤمنين، وحاولوا الفتك بالحواريين، مما اضطر الأخيرين للفرار إلى خارج أورشليم. غير أن الرومان سرعان ما انقلبوا على اليهود الكافرين الذين استحقوا غضب الله ولعنته وسوء العذاب إلى يوم القيامة، فشردوهم.

 

 -        قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) الأعراف 167- 169

 

 ففي أعقاب ثورة جديدة في الأرض المباركة، قام الإمبراطور الروماني تيطس Titus بتدمير أورشليم تماما عام 70م. وقتل من سكانها خلقا كثيرا، وأسر الكثيرين، وبيعوا كالرقيق، وأصاب اليهود على يديه ذل وهوان لم يعرف التاريخ لهما مثيلا.

 

 

رسم على قوس النصر بروما يسجل إخماد تيطس لثورة اليهود

 

ثم، بعد فترة من تدميرها، عاد اليهود إلى أورشليم وعادوا للثورة والفوضى مرة أخرى، فأمر الإمبراطور الروماني هدريان Hadrian بتدميرها ثانية عام 135م، وحرثها بالمحراث، وقتل منهم خلقا كثيرا. وأنشأ هدريان مدينة جديدة مكان أورشليم أسماها إيليا كابيتولينا Aelia Capitolina، ويعتقد أنه أقام فيها معبدا رومانيا في موضع المسجد الأقصى المبارك. وترك الرومان في المدينة كثيرا من آثار العمران، كالحصون، والطرق، ومنها طريق الكاردو في حارة الشرف [3] بالبلدة القديمة.

 

شارع الكاردو (أثر روماني في حي الشرف بالبلدة القديمة)

على أن النصارى لم يلبثوا أن انحرفوا بدورهم عن دين الله الحق، ونسوا حظا مما ذكروا به، مع طول العهد. فبسبب تأثرهم بالحضارات القديمة في المناطق التي تنقلوا إليها، ومنها الحضارتين الإغريقية والمصرية القديمة، مال بعضهم لاستخدام الفلسفات الوثنية لتفسير بعض المفاهيم الدينية التي غابت عن عقول الناس، وأدى هذا بمرور الوقت إلى انحرافهم عن فهم رسالة المسيح عليه السلام، واتخاذه إلها.

 

-        قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) المائدة 14

-        قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) النساء 171

 

وكما تفصل الآية القرآنية الكريمة، وكما حدث مع اليهود من قبل، أدى انحراف النصارى عن الميثاق إلى انقسامهم وانتشار العداوة بينهم. فما أن تبوأت المذاهب النصرانية المحرفة مكانة في الإمبراطورية الرومانية عندما اعتنقها الإمبراطور الروماني قسطنطين Constantine وأمه الملكة هيلانة Helena، حتى شرع القائمون عليها في فرض مذهبهم، واضطهاد مخالفيهم من النصارى فضلا عن اليهود، وفي طردهم من القدس.

 

وأقامت هيلانة في المدينة المقدسة كنيسة القيامة Church of the resurrection (تعرف أيضا بكنيسة القبر المقدس Church of Holy Sepulcher) حوالي عام 335م، وذلك فوق موضع الصلب المزعوم للمسيح عيسى بن مريم عليه السلام، بينما أهانت صخرة بيت المقدس، وجعلتها مطرحا للنفايات نكاية في اليهود الذين اتهموا بقتل عيسى.

 

كنيسة القبر المقدس (كنيسة القيامة) كما بدت في عام 1885م

 

وبعد وفاة قسطنين الأول الذي لقب بالعظيم، أو بالقديس قسطنطين، بنحو 50 عاما، وفي عام 395م، انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى إمبراطوريتين: بيزنطية شرقية وعاصمتها القسطنطينية Constantinople (بيزنطة Byzantium سابقا)، وغربية وعاصمتها روما Rome. ولم تلبث الكنيسة الرومانية الحاكمة أن انقسمت كذلك، فخضعت القدس (إيلياء) للكنيسة الشرقية في ظل الإمبراطورية البيزنطية.

 

 وتضاعفت الانقسامات والخلافات الدينية بين رجال الديانة النصرانية، وتفاعلت معها تطلعات رجال السياسة، والذين حرصوا على استغلالها لتقوية نفوذهم وتعزيز سلطة دولتهم. وكان من هؤلاء الإمبراطور جستنيان Justinian والذي شهدت الإمبراطورية البيزنطية في عهده ازدهارا، فبنى العديد من الكنائس من بينها كنيسة باسم العذراء، والتي يعتقد أنه أقامها في إيلياء، في موضع الجامع القبلي الجنوبي بالمسجد الأقصى المبارك وذلك حوالي عام 530م.

 

خريطة من الفسيفساء لمدينة إيلياء في القرن السادس الميلادي وجدت في كنيسة بمدينة مادبا شرقي نهر الأردن

 

مجسم البلدة القديمة في العصر البيزنطي ويوجد في متحف القدس بقلعة هيرودس

 

ومع كثرة  الانقسامات الدينية والسياسية، ومع إقدام البيزنطيين على ارتكاب فظائع في المدن الخاضعة لسيطرتهم لإجبار أهلها على اتباع كنيستهم، أثاروا حقد مختلف الشعوب، ومنهم أهل إيلياء عليهم. وأسهم هذا كله في ضعف الدولة البيزنطية، فانتهز أكاسرة الفرس الفرصة، واستولوا على إيلياء عام 614م، وعاد معهم عدد من اليهود. ولكن، لم يدم مكثهم فيها إلا لفترة وجيزة، إذ سرعان ما استعادها قيصر الروم هرقل Heraclius، وأيضا ليس لمدة طويلة، إذ أنه سيفقدها بعد ذلك بسنوات قليلة مع ظهور الرسالة الخاتمة.

 

-        قال تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ) الروم 2

 

 لقد ضاعت معالم الدين الحق في الأرض المباركة بين اليهود والنصارى، الذين يفترض أنهم أهل الكتاب، وبين الوثنيين. فغمرت الأرض كلها، شرقها وغربا، بشعوبها كلها، عربها وعجمها، ظلمات الجاهلية والكفر والظلم. ولكن، وعلى حين فترة من الرسل، كان نور جديد يشرق على الأرض من أكناف البيت الأول، بيت الله الحرام. فقد بعث الله تعالى نبيه الأمي ورسوله الخاتم، محمدا صلى الله عليه وسلم، من أمة العرب، من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، رحمة للعالمين، ليحرر به وبالأمة المسلمة الجديدة بيتيه الحرام بمكة والمقدس بالقدس من جديد.

 

وصدق الله تعالى وعده لنبيه عيسى عليه السلام بظهور أتباعه المؤمنين على الكافرين إلى يوم القيامة، وذلك ببعثة هذا النبي الحق وبالأمة المسلمة الجديدة التي اتبعته وآمنت بجميع الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله من قبله، لتبقى شاهدة على باقي الأمم بإذن الله حتى يوم القيامة.

 

-        قال تعالى: (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) آل عمران 55

 

 

[1]  ويعود يهود اليوم بأصولهم إلى هؤلاء الأسباط، حيث يزعمون أنهم من نسلهم. غير أن تفرق بني إسرائيل في الأرض، وامتزاجهم بالكثير من الأجناس الأخرى، ودخول متحولين من هذه الأجناس في اليهودية يجعل من العسير قبول هذه الفرضية حاليا. ويلاحظ أن القرآن الكريم يفرق بين الإشارة إلى "اليهود" والإشارة إلى "بني إسرائيل". فيستخدم "بني إسرائيل" لوصف أمة الدعوة من أبناء يعقوب عليه السلام، مؤمنها وكافرها، خلال عصورها التاريخية الممتدة حتى البعثة المحمدية، بينما يستخدم "اليهود"، في مقابل "النصارى" غالبا، عند الحديث حول أتباع الديانتين اليهودية والنصرانية بعد تحريف تلك الدعوة.

[2] هذه المدرسة يحتلها الصهاينة حاليا، ويتخذونها موقعا متقدما للسيطرة على المسجد الأقصى المبارك، حيث يطلقون منها النار على المصلين في أوقات الاضطرابات، كما أقاموا تحتها مدخلا إلى نفق يمتد بطول السور الغربي للمسجد الأقصى المبارك يطلقون عليه اسم نفق الحشمونائيم.

[3] حوله المحتلون الصهاينة اليوم إلى حي يهودي.