المرحلة الثالثة: فتح داود عليه السلام

المجموعة الأم: المحتوي
نشر بتاريخ الأربعاء, 05 حزيران/يونيو 2013 13:27
الزيارات: 7092

المرحلة الثالثة: فتح داود عليه السلام

 

من حوالي سنة 1000 ق.م - حوالي سنة 920 ق.م

 

هذه المرحلة من أهم وأبرز مراحل الازدهار في تاريخ المسجد الأقصى المبارك، وشهدت انتقال بني إسرائيل من العصيان إلى الطاعة، ودخولهم بيت المقدس بقيادة داود عليه السلام، حيث أقاموا خلافة مسلمة عظيمة جدد خلالها بناء المسجد الأقصى.

 

 

 

استمر فشل بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام في إتمام فتح الأرض المقدسة لسنوات طويلة، فأيقنوا أن طاعة الله ورسله والجهاد في سبيله هو الطريق الوحيد للخروج من الذل الذي حل بهم، ولمواجهة أعداء الله الذين أخرجوهم من ديارهم. ولجأ الملأ منهم إلى نبي لهم ليدعو الله حتى يبعث إليهم ملكا يقاتلون معه لتحرير الأرض المباركة، وفتح بيت المقدس. ويحكي القرآن تفاصيل هذه الملحمة العظيمة التي مر بها بنو إسرائيل حتى استحقوا النصر على القوم الجبارين (العمالقة)، في سورة البقرة.

 

-        قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) البقرة 246

 

ومن أبرز تفاصيل هذه الملحمة أن قرار الجهاد اتخذ على أعلى المستويات في بني إسرائيل، ولكن كان لابد من الثبات على خطوات تنفيذه، وهو ما احتاج إلى تمحيص متكرر، حتى ظهرت من بينهم الفئة القليلة المؤمنة التي حقق الله النصر على يديها. فقد تولوا إلا قليلا منهم بعد أن كتب عليهم القتال، كما ورد في الآية القرآنية السابقة، مما أدى إلى وصم هؤلاء المعرضين بالظالمين. 

ثم مر هؤلاء الذين ثبتوا في هذا الاختبار الأول باختبار آخر أشد صعوبة لدى اختيار طالوت (تطلق عليه التوراة المتداولة حاليا بيد اليهود والنصارى اسم شاول Saul) ملكا عليهم. فقد اعترضوا عليه، وبرروا ذلك بأنه لم يؤت سعة من المال. ومرة أخرى، لم ينجح إلا البعض في هذا الاختبار، بعد أن وثقوا باختيار الله تعالى لمن أوتي بسطة في العلم والجسم. 

وبعد أن سار الناجحون في هذا الاختبار الثاني مع الملك طالوت، أمرهم بعدم الشرب من نهر مروا عليه، رغم أنهم عطاش، إلا جرعات قليلة. ولم يلبث غالبية القوم أن فشلوا في هذا الاختبار الجديد، ولم يثبت منهم إلا القليل الذين وصفهم الله بالإيمان. ثم مر هذا القليل بتجربة أخيرة هي ملاقاة جالوت Goliath ملك الجبارين في جنوده وجها لوجه. وهنا، لم يثبت إلا من يوقنون بالآخرة يقينا جازما، فدعوا الله تعالى أن يثبتهم وينصرهم على القوم الكافرين، وجاء النصر منه تعالى.

وبرز من القلة المجاهدة داود David، عليه الصلاة والسلام، فقتل جالوت، ملك الجبارين، وانتصر المؤمنون. وآتى الله عبده داود الملك والحكمة، وآتاه علما، وأنزل عليه كتابا هو الزبور Psalms، وسخر معه الجبال والطير يسبحن، وألان له الحديد، فكان يعمل بيده، ووصفه الله تعالى بالعبد الأواب ذي القوة في العبادة.

 

-        قال تعالى: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ص 17

 

بعد أن تولى داود عليه السلام الملك، تمكن من فتح القدس حوالي عام 995 ق. م. [1]، فوسعها، وعمرها، وجعلها عاصمة لملكه، لتشهد هي ومسجدها المبارك عهدا ذهبيا امتد حتى نهاية عهد ابنه سليمان عليهما السلام، واعتبر أبرز عهد لها عرفه التاريخ القديم.

ويزعم الصهاينة اليوم، والذين ينسبون أنفسهم لداود عليه السلام، أنه أسس نواة القدس الأولى التي يعتقد أنها كانت على تلال أوفل وسلوان المحاذية للسور الجنوبي للبلدة القديمة بالقدس حاليا. ولذا، يطلقون على سلوان التي تعتبر البوابة الجنوبية للمسجد الأقصى المبارك اسم "مدينة داود City of David". والصحيح أن اليبوسيين العرب كانوا أول من أسس القدس في هذه المنطقة لوجود عين سلوان بها، وهو ما تدل عليه الحجارة اليبوسية التي لا تزال موجودة فيها. أما داود عليه السلام، فتمثل دوره في فتحها واتخاذها عاصمة لمملكته التي امتدت لتشمل كل أراضي فلسطين، للمرة الأولى في حياة أتباع التوحيد من بني إسرائيل.

 

حجارة يبوسية في الجهة الجنوبية من المسجد الأقصى المبارك تثبت أن داود عليه السلام لم يكن أول من بنى مدينة القدس– المصدر: موقع ويكيبيديا

 

وبعد وفاة داود حوالي عام 963 ق. م. [2]، ورثه ابنه سليمان Solomon، عليهما السلام، من حيث النبوة والملك، بإذن الله تعالى. واتسع ملك النبي الكريم، سليمان عليه السلام، فشهد حركة بناء وعمران ضخمة ارتبطت بالصروح والمحاريب، وبلغ شأوا عظيما يعجز عن إدراكه البشر. فقد علمه الله تعالى منطق الطير، وسخر له الريح والجن، وأسال له عين القطر. وكان ملكه عليه السلام معجزة على نبوته، ولم يكن سحرا أو كفرا، كما ادعت يهود. فقد نفى الله تعالى عنه ذلك، ووصفه بالعبد الأواب، كما وصف أباه داود من قبل.

 

-        قال تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) الأنبياء 81


-       قال تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) سبأ 12-13
 

وامتد نفوذ مملكة سليمان عليه السلام إلى سبأ Sheba في اليمن جنوبا، فدخلها الإسلام على شريعة موسى عليه السلام، وأسلمت معه ملكتها، كما يحكي القرآن الكريم.

 

-        قال تعالى: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) النمل 44

 

وكان طبيعيا أن تمتد آثار النبوة والملك العظيم اللذين اجتمعا لسليمان عليه السلام، إلى المسجد الأقصى المبارك الذي كان قد بناه لأول مرة آدم عليه السلام أو أحد أبنائه على الأرجح. فقد جدده سليمان عليه السلام تجديدا يليق بملكه، كما يؤكد الحديث الشريف.

 

-         عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ وَأَلَّا يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ.) سنن ابن ماجه/ حديث 1398 ترقيم العالمية

 

ويلاحظ في هذا الحديث أن الإشارة إلى المسجد الأقصى المبارك وردت باسم "بيت المقدس". وهذا الاسم في الحقيقة هو الترجمة العربية الفعلية للفظة العبرية "بيت هاميكداش"، التي يطلقها اليهود على هذا المسجد المبارك. أما الترجمة المتداولة لهذه الكلمة العبرية إلى معبد أو هيكل بالعربية، فهي مأخوذة عن الكلمة الإنجليزية Temple، والتي جاءت بدورها من ترجمة اليونانيين والرومانيين القدماء لكلمة "بيت المقدس" إلى "معبد"، إذ أن مفهوم بيوت الله ليس مألوفا لديهم.

ويعتقد بعض الباحثين، وخاصة الدكتور عبدالله معروف، صاحب كتاب "المدخل إلى دراسة المسجد الأقصى المبارك"، أن اختفاء آثار هذا التجديد العظيم للأقصى، والذي تم في عهد سليمان عليه السلام، رغم الحفريات الكثيرة التي أجراها الأثريون في المسجد المبارك وما حوله، يعتبر استجابة من الله تعالى لدعوة هذا الرسول الكريم بأن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. فهذا الملك لا ينبغي لأحد من بعده أن يحوز مثله، ولا حتى أن يدرك كنهه.

 

-         قال تعالى: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) ص 35

 

 

وهكذا .. حكم بنو إسرائيل المصطفون الأرض المباركة، في عهد النبيين الكريمين والملكين العظيمين، داود وسليمان عليهما السلام، حكما عادلا وآمنا، امتد حوالي 80 عاما، حتى وفاة سليمان عليه السلام عام 923 ق. م.[3] .

ويزعم الصهاينة اليوم، وكثير منهم من اليهود، أنهم وارثي ملك داود وسليمان عليهما السلام، ويسعون، بناء على ذلك الزعم، إلى هدم المسجد الأقصى المبارك ببنائه الحالي، وطمس المعالم الإسلامية في القدس المباركة، وإخراج أهلها منها. ولكن الحقيقة أنهم لا يمتون بصلة لتلك الأمة التي خلت من بني إسرائيل، ولا لهذه الأرض المباركة. فقد نبذوا النبوة والكتاب، وزعموا أن داود وسليمان، عليهما السلام، كانا ملكين لا نبيين، ونسبوا الكفر والسحر إلى سليمان عليه السلام، وحرفوا شريعة موسى عليه السلام، وقتلوا فريقا من أنبيائهم، وكذبوا فريقا آخر.

 

-        قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ. وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ..) البقرة 102

 

ولا شك أن النصر والتمكين حليف الصادقين من أتباع الأنبياء، في كل وقت وحين، وان اللعنة هي نصيب الكافرين على مر الدهور، كما ورد على لسان داود عليه السلام، وفي الكتاب الذي أوتيه.

 

-        قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) الأنبياء 105


-        قال تعالى: ُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) المائدة 78

 

[1]  د. محسن محمد صالح، ، الطريق إلى القدس،(القاهرة، مركز الإعلام العربي،2003م)، ص: 32.

[2] المصدر السابق، ص: 32- 33

[3] المصدر السابق، ص: 33