الأقصى بين فتوحات الماضي والفتح القادم

المجموعة الأم: النشرة
نشر بتاريخ الثلاثاء, 06 كانون1/ديسمبر 2016 10:23
الزيارات: 2334

بقلم: د. خالد العويسي
متخصص بدراسات بيت المقدس


نشر بتاريخ: 19/10/2016

 

في هذا العام يكون قد مرَّ على ضياع المسجد الأقصى وبيت المقدس من يد الخلافة العثمانية تسع وتسعون سنة، وقد مرَّ على حريق المسجد الأقصى على يد صهيوني سبع وأربعون سنة. وإلى يومنا هذا لم يقم المسلمون بشيء يُذكَر؛ لاستعادة قِبلتهم الأولى وإعادتها إلى حاضرة الإسلام.

 
سبق نكبة احتلال المسجد الأقصى نكبةٌ معرفية أدَّت إلى ضياع بيت المقدس، وكان بدء الأمر بالترويج إلى الفكر القومي والتفريق بين المسلمين الذين كانوا تحت راية واحدة، فعمِل بعض الخونة من المسلمين مع المحتلِّ الإنجليزي ضد الخلافة العثمانية؛ لإسقاطها ورحبوا بالمحتلِّ في أرضهم المقدسة، ومن ثم سلَّم المحتلُّ الإنجليزي هذه الأرض للمحتلِّ الصهيوني بعد أن استغلَّ جهل المسلمين وسذاجتهم.

المسجد الأقصى ليس كغيره من المساجد؛ فهو القِبلة الأولى للمسلمين، وثاني مسجد على الأرض، وأحد المساجد الثلاثة التي تُشدُّ إليها الرحال. وعِزَّة المسلمين مرتبطة بهذا المسجد ارتباطا عضويا، فإن كان المسجد الأقصى بيد المسلمين؛ كانوا في عزة ومنعة، وإن أضاعوه؛ ضاعت معه هيبتهم وعزتهم كما نرى في زماننا هذا وكما كان الحال قبل أن يحرِّر صلاح الدين بيت المقدس من الصليبيين. لم يستطع صلاح الدين تحرير المسجد الأقصى وإعادة عزة المسلمين إلا بعد أن أصبح المسجد الأقصى نقطة مركزية في حياته وحياة المسلمين في زمانه، ولن نستطيع تحرير المسجد الأقصى حتى ندرك أهميته ونعيده إلى قلوبنا وعقولنا وأذهاننا.

ولو نظرنا في التاريخ لأخذ الدروس والعِبَر؛ لوجدنا أن المعرفة هي التي تقود التغيير ومن ثَم التحرير؛ فبدون المعرفة ستبقى الجهود تدور في دائرة مغلقة ولن تجدي نفعا كبيرا. فبعد أن ذبح الصليبيون عشرات الآلاف في المسجد الأقصى لم يتحرك المسلمون إلا عاطفيا ودون عمل ممنهج وبقي المسلمون متفرقين والأقصى تحت الاحتلال. ولم يتغير الأمر إلا عندما بدأت حركة ممنهجة بدأت مع بعض العلماء ومن ثم تبناها بعض القادة كأمثال عماد الدين زنكي ونور الدين، تلك الحركة التي تتلمذ عليها صلاح الدين.
 
ولم يستطع نور الدين تحرير المسجد الأقصى رغم أنه أمضى جُلَّ حياته من أجل تحريره، بل وجهز نور الدين منابر كي توضع في مساجد بيت المقدس بعد تحريره، وتربط الناس إلى ذاك الوقت بفكرة التحرير. فكانت هذه المنابر تربط الناس عمليا بفكرة الإهداء إلى الأقصى كما أوصى رسول الله في حديثه لميمونة، "أَهْدِي إِلَيْهِ.. فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيْهِ كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِيهِ".
 
بعد وفاة نور الدين أكمل تلميذه صلاح الدين طريق توحيد المسلمين لتحرير المسجد الأقصى، وكان هذا أشقَّ من الجهاد ضد الصليبيين، فقد أمضى عشرات السنين في التنقل بين مصر والشام والعراق لكي يوصل للمسلمين أهمية الأقصى والتوحد من أجل تحريره.
 
وكانت سُنَّة الإهداء إلى الأقصى التي أحياها نور الدين حاضرة في ترحال صلاح الدين، ففي مدينة ديار بكر اجتمعت نسوة حول صلاح الدين وطلبن منه أن يحمل هدية عطر منهن للمسجد الأقصى. فوصل الوعي والمعرفة بحال المسجد الأقصى والتوحد من أجل تحريره إلى جميع فئات المسلمين. وعندما أدرك صلاح الدين غايته في جمع كلمة المسلمين كان من السهل عليه مواجهة الصليبيين في جيش جمع المسلمين بأعراقهم المختلفة من عرب وترك وكرد وبربر. ودخل المسجد الأقصى مع جنوده وغسل الصخرة بعطر نساء دياربكر، وكان وفيا لأستاذه فأحضر المنابر ووضع منبرا في المسجد الأقصى ومنبرا في عسقلان ثم تم نقله إلى الخليل.

بقي منبر التحرير في المسجد الأقصى صدقة جارية عن نور الدين مدة أحد وسبعين وسبعمائة عامًا حتى تمَّ إحراقه بعد احتلال المسجد الأقصى من قِبَل الصهاينة في زماننا هذا. وما زال المسجد الأقصى ينتظر رجالا كـنور الدين وصلاح الدين، ونساء كنساء ديار بكر يضعون نصب أعينهم تحرير المسجد الأقصى ويرتبطون به معنويا ودينيا وسياسيا.
 
فهكذا علَّم رسول الله أصحابه وربط أرواحهم وقلوبهم وعقولهم ببيت المقدس قبل أن يتحركوا لفتحه، فقد كان المسجد الأقصى قِبلة الصحابة التي يصلُّون إليها صلواتهم فترتبط بها أرواحهم. بل كان الوحي المتنزل على رسول الله ثلثه قصصٌ لأنبياءٍ ولدوا وترعروا وعاشوا على تلك الأرض المباركة، وذلك ما ربط الصحابة بتلك الأرض دينيا.
 
بل وربط القرآن الصحابة ببيت المقدس سياسيا عن طريق الآيات المتنزلة حول الحرب بين الروم والفرس في أرض بيت المقدس، فذاك الصديق أبو بكر يراهن بماله فيرتبط بما يحصل في أدنى الأرض -بأرض بيت المقدس- ويتابع أخبار تانك الإمبراطوريتين وحروبهما والمسلمون مستضعفون في مكة، لا حول لهم ولا قوة.
 
وسع بيت المقدس مدارك الصحابة وأعطتهم تلك الأخبار والقصص الأمل بأن نصر الله آتٍ بل وسيفرح المؤمنون بنصر الله. كل هذه الروابط أسَّست لعلاقة وثيقة بين الصحابة وبيت المقدس قبل الإسراء والمعراج، وأتت رحلة الإسراء تتويجا لهذه العلاقة المميزة مع ذاك المكان البعيد.

كما أن الجهود المعرفية قد أدَّت في الماضي دورًا محوريًا في الإعداد للفتح الأول والثاني لبيت المقدس ولن نستطيع الوصول للفتح الثالث لبيت المقدس دون إعداد معرفي حقيقي. فما كان لخليفة المسلمين عمر بن الخطاب والسلطان صلاح الدين أن يحرِّرا بيت المقدس لو لم يسبقه إعداد. وكما ذكر صلاح الدين لعساكره يوم الفتح "لا تظنُّوا أنِّي ملكتُ البلاد بسيوفكم بل بقلم القاضي الفاضل". فأهمية الإعداد المعرفي لا تضاهيها أيُّ أهمية ولن يتمَّ الفتح إلَّا بعد استكمالها.

فمن سيرة رسول الله مع أصحابه في ربطهم معرفيا ببيت المقدس نستطيع أن نلخِّصها في ثلاث نقاط هي: الرابط الروحي، والرابط الديني، والرابط السياسي.

ومن الممكن أن نترجم هذه الروابط عمليا بالدعاء اليومي لبيت المقدس، فبذلك نربط أرواحنا به. ودينيا نربط قلوبنا ببيت المقدس عن طريق معرفة فضائل بيت المقدس وأهميتها في الإسلام وفي تاريخنا. وسياسيا نربط أذهاننا عن طريق متابعة ما يحدث في المسجد الأقصى يوميا من اعتداءات الصهاينة على المسجد والمرابطين فيه.

هذا بالإضافة إلى ما يمكن الاستفادة به من تجربة صلاح الدين في العمل على جمع كلمة المسلمين على أمر لا يختلف عليه مسلمان. ومع هذا يصبح الإهداء إلى المسجد الأقصى أمرًا بديهيا لـمَن علِم منزلة بيت المقدس وأهمية تحريره في رِفعة المسلمين وعِزَّتهم. وعلى كل مسلم أن يفكر في هدية معنوية أو مادية تُهدَى إلى المسجد الأقصى ومن الممكن إيصالها إليه وهو تحت الاحتلال؛ تربط المرء شخصيا بذاك المكان. وهدية أخرى يجهِّزها من أجل الفتح والتحرير كما فعل نور الدين ونساء ديار بكر.

لا شكَّ أن الظلم لا يدوم في الأرض المقدسة، وكما ذكر المفسرون من أن معاني الاسم القرآني "الأرض المقدسة" أي الـمُطهَّرة التي لا يُعمر فيها ظالم، وجُل ما يحتاجه الأمر إعداد العدة لإسقاط نكبتنا المعرفية وإساءة وجوههم وتتبير علوهم.
 
ولا يشكُّ من يقوم بقراءة التاريخ واستقرائه أن دولة الصهاينة بعدما علت وأفسدت في الأرض إلى زوال لا محالة، وأن فتح بيت المقدس سيكون له ما سيكون من عِزَّة للإسلام والمسلمين وانطلاقة جديدة من أرضها.

المعرفة تقود التغيير والتحرير..