نشرة الأقصى الإلكترونية

"إسرائيل" والقدس... بين الديني والعلماني!

د. وحيد عبد المجيد

صحيفة الاتحاد الإماراتية

تاريخ النشر:  15/03/2007

 

لم يشغل الإسرائيليون، بخلاف العرب، أنفسهم بصراعات على نوع الدولة التي أقاموها بعد أن اغتصبوا أرضاً من أصحابها الفلسطينيين. ففي الوقت الذي لم تتوقف معارك العرب في كثير من بلادهم، قبل عام 1948 وبعده، بشأن العلاقة بين الدولة والدين، آثر يهود "إسرائيل" أن يوفروا جهدهم لخوض معارك التوسع والاستيطان. وحققوا الكثير في هذا المجال، بينما لم ينجح كثير من العرب حتى اليوم في حسم الخلاف على طابع دولهم، وخصوصاً من زاوية علاقتها بالدين وموقعه فيها، على نحو ما نرى في مصر الآن.

لقد أدرك أهم قادة الحركة الصهيونية، ممن يطلق عليهم "الرواد"، في وقت مبكر أن الانجرار إلى معارك الدولة والدين يضعف الكيان الذي أقاموه عنوة لما يؤدي إليه من تعميق الانقسام بين القوى العلمانية والدينية. وعندما وجدوا أنه من الصعب كتابة دستور ل"إسرائيل" بدون حسم الخلاف على قضية العلاقة بين الدولة والدين، وأن السعي إلى مثل هذا الحسم لن يقود إلا إلى تعميق الانقسام، صرفوا نظرهم عن الدستور المكتوب واعتمدوا صيغة القوانين الأساسية التي ترقى إلى مرتبة الوثيقة الدستورية في بعض الدول وفقاً للنموذج البريطاني.

ولذلك يستحق جائزة من يستطيع الإجابة على السؤال عن نوع الدولة الإسرائيلية منذ عام 1948 وحتى الآن. فهي لا تعتبر دولة علمانية لأن هذا النوع من الدول لا مكان فيه للدين، بينما لليهودية موقع جوهري في قلب "إسرائيل". فهي ليست فقط دولة لليهود، ولكنها أيضاً تحقيق لرواية توراتية وامتداد لتاريخ ديني- أسطوري مديد.

وهي لا تعتبر دولة دينية من حيث نظامها السياسي المنقول بكامله من النموذج الديمقراطي البرلماني الغربي باستثناء مبدأي المساواة والمواطنة الكاملة واللذين أحل الرواد الصهاينة محلهما تمييزاً لمصلحة اليهود، ضد غيرهم مسلمين كانوا أم مسيحيين. كما أن أنماط الحياة وأنواع التفاعلات الاجتماعية السائدة فيها مستمدة بدورها من النموذج الغربي الذي حمله مهاجرو الموجات الأولى الذين هاجر معظمهم إلى فلسطين قادمين من شرق أوروبا، بينما كان بعضهم من غرب هذه القارة. فالمواطنة في "إسرائيل" تقوم على أساس ديني وليس وطنياً بخلاف ما هو معروف في الدولة العلمانية الغربية. فاليهودي هو الذي يتمتع بحقوق المواطنة الكاملة حتى إذا لم يعش في "إسرائيل" طول حياته. أما المسلم أو المسيحي الذي يعيش فيها ويحمل جنسيتها فمواطنته منقوصة حتى إذا كانت جذوره ممتدة في عمق الأرض التي أقيمت عليها "إسرائيل" لمئات السنين. ولا يهم، في ذلك، أن يكون هناك تعريف محدد ونهائي لليهودي. فالخلاف على هذا التعريف لم يجد حلاً، وسؤال من هو اليهودي ظل بلا إجابة حاسمة حتى اليوم. ومع ذلك فاليهودي هو الأساس الذي تقوم عليه "إسرائيل" دون أن يجعلها ذلك دولة دينية، في الوقت الذي لا يمكن إغفال هذا الأساس والنظر إليها بالتالي كدولة علمانية.

ورغم أن نظامها السياسي علماني في القواعد التي تنظمه والآليات التي يعمل بمقتضاها والقوانين التي تحكمه والمعايير التي تحدد التنافس بين أحزابه وجماعاته، فالأحزاب الدينية تعتبر جزءاً لا يتجزأ منه منذ يومه الأول إلى حد أنه قد يصعب تصوره بدونها. وهذه أحزاب أكثر استغراقاً في مرجعياتها الدينية مقارنة بأي حزب سياسي إسلامي. ولا يضاهيها في هذا الاستغراق إلا الجماعات الدينية السلفية التي لا تمارس العمل السياسي في الدول المسلمة. ومع ذلك فالأحزاب اليهودية المنهمكة حتى النخاع في مرجعياتها الدينية تعمل بالسياسة وتخوض الانتخابات وتنضم إلى الائتلافات الحكومية منذ عام 1949 حين كان حزب "مفدال" جزءاً من أول ائتلاف قاده حزب "ماباي" الذي يعتبر حزب "العمل" الإسرائيلي الحالي امتداداً له. وعقب كل انتخابات أجريت في "إسرائيل"، كانت هناك مفاوضات ائتلافية. وفي كل من هذه المفاوضات، سعى حزب ديني أو آخر إلى فرض مطالبه التي تتعلق في معظمها بأمور تدخل في صلب قضية العلاقة بين الدولة والدين. وكان معظم هذه المطالب مجاباً دون أن يؤدي ذلك إلى تديين الدولة التي ظلت محتفظة بطابعها الخاص الذي لا يعتبر علمانياً رغم أنها أقيمت وفق النموذج الغربي العام، ولا دينياً رغم استنادها على أساطير يهودية وروايات توراتية وارتباط المواطنة فيها بالدين وليس بالوطن.

وليس هناك دليل على قوة الطابع الديني لدولة "إسرائيل" أكثر من الأهمية المركزية التي تمثلها القدس التاريخية وما يرتبط بها من أساطير تلهب خيال الإسرائيليين، العلمانيين منهم والتوراتيين على حد سواء. غير أن مؤسسة الدولة في "إسرائيل" تستثمر الأهمية الخاصة للأساطير اليهودية والروايات التوراتية بشأن القدس لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية تتعلق بالحاضر والمستقبل وليس بالتاريخ الذي تنبعث منه هذه الأساطير والروايات.

وهذا هو ما يحدث بشكل منتظم منذ أن وصل الجنرال "موردخاي غور" إلى ساحة "الحرم القدسي الشريف" في ثالث أيام حرب يونيو 1967، وحتى اليوم. فالسعي إلى تهويد القدس ثم توسيعها أو تكبيرها ضمن مشروع "القدس الكبرى" هو الخط العام الذي يربط الحفريات الجارية في محيط المسجد الأقصى منذ أن نزل موشى ديان في القدس القديمة بعد أيام على احتلالها وصادر مفتاح باب المغاربة (الباب الغربي "للحرم القدسي") وحتى أعمال الحفر والتجريف التي تحدث عند هذا الباب الآن. ولكن هذا الهدف الاستراتيجي الكبير الذي يمثل إحدى أهم غايات مؤسسة الدولة في "إسرائيل" يمتزج بأهداف أخرى دينية وأسطورية. ففي هذا المكان الذي تفوح منه رائحة التاريخ تلتقي الأساطير اليهودية الخاصة بوجود بوابة "باركليز" أو بوابة الهيكل تحت باب المغاربة، والأهداف الدينية المتعلقة بحماية سلامة المصلين اليهود في باحة ما يسمونه "حائط المبكى" (حائط البراق) في غرب "الحرم القدسي"، مع الأغراض السياسية والاستراتيجية لمشروع القدس الكبرى والخطط الأمنية المرتبطة بضمان السيطرة على باحة المسجد الأقصى لمنع حدوث أعمال شغب.

ولذلك لم تكن أعمال الحفر والتجريف الأخيرة، مثلها مثل سابقاتها، مجرد تحرك مدفوع بنزعة دينية توراتية معادية للإسلام والمسيحية، على نحو ما نظر إليها معظم العرب والمسلمين. كما أن هذه النزعة لم تكن هامشية فيها، الأمر الذي يجعلها خطراً حقيقياً على المسجد الأقصى، بخلاف ما ذهب إليه عرب ومسلمون رفعوا شعار أن الخطر هو على القدس في مجملها.

فالتهويد يطال المسجد والمدينة القديمة كلها انطلاقاً من كراهية دينية يهودية، ولكن ضمن مشروع استراتيجي أكبر يهدد القدس كلها ويهدف إلى إنهاء قضية فلسطين برمتها. والجرافات الإسرائيلية التي باشرت الحفر والتجريف عند باب المغاربة تعمل بأكثر من محرك في آن معاً. فهناك محرك ديني يتمثل طرازه الأحدث في نظرية تزعم قرب اكتشاف بوابة الهيكل من خلال الحفر تحت باب المغاربة إلى عين سلوان بعمق حوالي تسعة أمتار، للوصول إلى نفق يقال إنه جزء من مجرى سفلي كان ينقل الماء من بركة سليمان إلى جبل الهيكل.

وهذا المحرك، الذي تقوم بتشغيله هيئة الآثار الإسرائيلية التي يكثر فيها من استلبت الروايات التوراتية وعيهم ومن سيطرت أحلام المجد عليهم، يعمل جنباً إلى جنب المحرك الذي يقع ضمن اختصاص السلطات الأمنية التي لا يشغلها سوى ضمان السيطرة على المنطقة. والهدف الأول لهذا المحرك هو بناء جسر "فولاذي" بدلاً من الجسر الخشبي المؤقت الذي أقامته الشرطة الإسرائيلية لتيسير إدخال قواتها إلى باحة المسجد لقمع أي تمرد فلسطيني. ويندرج هذا الهدف ضمن استراتيجية من شقين: أولهما إحكام السيطرة على المسجد الأقصى، وعلى البلدة القديمة بوجه عام، وبالتالي إغلاق ملفها نهائياً بحيث لا يبقى مجال لأي تفاوض عليها في حال الاضطرار إلى إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين حول الوضع النهائي.

أما الشق الثاني فيها فهو إتمام مشروع القدس الكبرى عبر ربط القدس الشرقية بكاملها، بما فيها البلدة القديمة، بمستوطنة "معاليه أدوميم" أكبر مستوطنات الضفة الغربية التي يوجد تفاهم إسرائيلي- أميركي على أنها لن تكون جزءاً من الدولة الفلسطينية عند التفاوض عليها.

وهكذا تلتقي وتتضافر العوامل الدينية - التوراتية والسياسية - الاستراتيجية في تعامل "إسرائيل" مع القدس. كما تجسد هذه المدينة الحزينة الطابع الخاص ل"إسرائيل" التي يمكن أن تجد فيها معالم دولة علمانية إذا أردت وملامح دولة دينية إذا شئت، لأن النخبة التي أقامتها لم تنشغل إلا بما يدعم قوة هذه الدولة ويحقق أهدافها.

 

المصدر: المركز الفلسطيني للإعلام

 

ملحوظة الموقع: يقصد بالحرم الشريف هنا كل مساحة المسجد الأقصى المبارك البالغة 144 ألف متر مربع، والذي يشمل كلا من الجامع القبلي وقبة الصخرة المشرفة إضافة إلى مختلف المعالم الأخرى الموجودة داخل سوره. وإنما يفضل عدم استخدام كلمة الحرم للإشارة إلى الأقصى، لكون المسجد الأقصى المبارك ليس حرما كحرمي مكة والمدينة، وأيضا لأن الحرم قد يعني ما يحيط بالشيئ، ومن ثم فإنه قد يوهم أن الساحات المحيطة بالجامع القبلي مثلا مجرد حرم له، وليست جزءا أصيلا من الأقصى، خاصة وأن البعض يعتقد أن هذا الجامع فقط هو كل المسجد الأقصى، والحق أن الساحات والمباني المختلفة التي يحيط بها السور بما فيها قبة الصخرة كلها أقصى - انظر دليل المسجد الأقصى المبارك

 


للحصول على نشرة الأقصى الإلكترونية، يرجى التسجيل في القائمة البريدية للموقع:

alaqsa_newsletter-subscribe@yahoogroups.com  

عودة إلى صفحة النشرة الرئيسية